يرحل فنانون عديدون، فيتحوّل جزءٌ من مهنة الصحافة إلى مرثيّات. هذا جزء من عمل يتطلّب وداعًا يليق بالراحل. والوداع يتّخذ في الكتابة أشكالاً مختلفة. المرثيّات غالبة. الشهادات أيضًا. النقد غائبٌ، فللموت حُرْمته كما يُقال، وهذا منافٍ لأصول المهنة، إنْ يكن هناك من يتمسّك بأصولها وطقوسها وأخلاقياتها. النقد ضروري، وإنْ تخفّ وطأته لحظة الوداع. لكن السرد التأريخي للسيرتين الحياتية والمهنيّة للراحل تبقى مجرّد نصّ رثائي عادي ومُستهلَك، تميل إليه كتابات عربية كثيرة، تبدو كأنها "نسخة طبق الأصل" عن "بيانات صحافية"، أو "رواية رسمية".
يرحل هؤلاء، فينشغل نقّاد وصحافيون بكتابة مقالاتٍ تليق بالراحل واشتغاله. الاشتغال لن يكون كلّه سويًا، لذا يُفترض بالكتابات ألا تتغاضى عن هذا. الترفّع عن سلبيات الراحل وأعماله لحظة الرحيل مناقض لكتابات سابقة على الرحيل. نقّاد وصحافيون يتابعون ويناقشون ويحاورون أثناء اشتغالات الفنان/ الفنانة، وعند الرحيل يُفترض بهم أن يُكمِلوا هذا كلّه، وإنْ مع تخفيفٍ مطلوب للنقد والسجال، فاللحظة غير مناسبةٍ كلّيًا لنقدٍ وسجالٍ، تحتملهما كتابات سابقة على الرحيل.
هذا صعبٌ. اللحظة إنسانية، لكن المهنة عمليّة. لذا، يتحوّل النصّ إلى مزيجٍ بين قراءة مفاصل ومحطات وأعمال ومواقف متعلّقة بالراحل، ومحاولة التعليق النقدي عليها، والنقد لن يكون متطابقًا ومفهوم عربي خاطئ وشائع له، يظنّ أن النقد شتم وتقريع بدلاً من أن يكون "بنّاءً"(!)، علمًا أن النقد غربلة وسجال ونقاش، وإنْ يُستحسن تخفيفه لحظة الوداع.
المأزق كامنٌ في حالة تتعلّق بالناقد أو الصحافي. أحيانًا، تَتَتابع حالات الرحيل بشكلٍ متسارع، فيشعر الناقد كأنّه "حفّار قبور". الوداع مؤلم، والألم يزداد إنْ يكن الراحل صديقًا، فالعلاقات السوية بين فنانين ونقّاد حاضرة رغم اختلاف الآراء بين الطرفين، أحيانًا. الوداع قاسٍ. الكتابة عن راحلٍ تستدعي تخفُّفًا من ألم الفراق، والانصراف إلى الكتابة لحظة الحزن. لكن المهنة غير منتظرة حِدادًا يُتيح كتابة، فالزمن أسرع من أن يؤجّل وداعًا مهنيّا، أيًا تكن الظروف.
ينتاب الناقد قلقًا إزاء تتابع الوفيات. هذا لا علاقة له بقلق الكتابة، فالكتابة، وإنْ تودِّع راحلاً، تمتلك سحرًا ومتعة لن يحجبهما موتٌ ورثاء. القلق ناتج من رحيلِ معارف تتنوّع أشكال معرفة الناقد بهم: صداقة ورفقة وتواصل مهنيّ، وانجذاب إلى عالمٍ فنيّ يصنعه هؤلاء عملاً تلو آخر. قلق إزاء كتابةٍ تغوص في ماضٍ يبقى حيًا، إنْ تكن نتاجات الراحل ثرية بجماليات واشتغالات وتساؤلات. قلق إزاء معنى الرحيل، وعلاقة النتاج بالحياة، ومغزى الكتابة الوداعية بحدّ ذاتها.
هناك قلقٌ آخر إزاء كيفية الكتابة عن راحلٍ له حضور في المشهد الفني، لكن نتاجاته دون قدرة الناقد على تقديم شيء جيّد وصالحٍ عنها، لشدّة خوائها وسطحيّتها. عندها، يتولّى "البيان الصحافي" أو "الرواية الرسمية" مهمّة الرثاء، إذْ تكتفي المهنة بهما، تفاديًا لكتابة ربما تُسيء إلى الراحل لحظة رحيله بسب هفواتٍ يرتكبها في حياته.
الرحيل قاسٍ، لكن المهنة تتطلّب تغلّبًا على قسوته. فهذه حال الدنيا، وحال الكتابة أيضًا.