يقف الشرطي كليف روبرت ستون في مقبرة القرية، ويبدأ بإطلاق النار على أصحابه، يسميهم بأسمائهم، بعضهم يخرج من القبر، وآخرون يأتون من بعيد، يستعيد ذكراه معهم، قبل إطلاق رصاصة في رأس كل واحد منهم. هم زومبيز، موتى أحياء، لا بد من فصل رأس الواحد منهم عن جسده لضمان "موتهم" مرة ثانية. بصورة أدقّ، القضاء على الجهاز العصبيّ المركزيّ. المشهد السابق من فيلم "الموتى لا يموتون" (THE DEAD DON’T DIE) الصادر هذا العام، من كتابة وإخراج جيم جارموش، هو إضافة جديدة لمئات الأفلام التي يجتاح فيها الموتى الأحياء "العالم" ويمشون ببطء لالتهام كلّ ما فيه.
يمكن كتابة الكثير عن موضوع الزومبي، وتطور أشكالها في السينما والثقافة الشعبيّة. فهُم تلك الجموع التي تجتاح عالم الأحياء بعدما تم نفيهم منه، وعادة نتيجة خطأ طبيّ أو وباء ما، يُذهب العقل، ويحولهم إلى مجرد هائمين ملطخين بدمائهم، يلتهمون "اللحم" الحيّ في سبيل استمرارهم. هم ليس موتى كلياً ولا أحياء كلياً، هم بين المنزلتين، ونادراً ما تمكن عودتهم إلى "الحياة" بصورة كاملة.
ما يهمنا هو التوظيف السياسي والإعلاميّ لصورة الزومبي؛ إذ ظهر هذا المفهوم على الشاشة في بدايات القرن العشرين ونراه بوضوح في فيلم "الزومبي الأبيض" الصادر عام 1932، عن حكاية امرأة وخطيبها. يتم تحويل المرأة إلى زومبي على يد ساحر فودو، بعد زيارتهما لهاييتي، التي تحوي زومبيز يُستخدمون لمهمات مختلفة. هم أشبه بـ"عبيد" خاضعين للسيطرة، كيانات تقوم بكل الواجبات و"الأعمال". وهنا تظهر صورة الزومبي بوصفها بديلاً ديستوبياً عن تلك الفترة في الولايات المتحدة، حيث تصاعدات الحركات العمّالية ومحاولات تجاوز الكساد الاقتصادي؛ فالزومبي يمثل العامل المثاليّ، بلا عقل، بلا وعي ولا شخصيّة، ولا حاجة لدفع "أجر" له، فقط الحفاظ على "استمراره". وهنا يأتي توصيف فليكس غوتاري وجيل دولوز للزومبي في كتابهما "ضد أوديب" بوصفه "كائناً فصامياً"، وهو ما ينطبق على العامل الذي يرى أن زمن العمل زمن ميت، وبعده زمن الحياة، وكأننا نعيش لثماني ساعات كأموات في العمل، لنحيا بعدها.
يظهر الزومبي في الفيلم السابق كمعادل للسكان الأصليين، "البرابرة" و"الوحوش"، الذين يمكن التحكم بهم والتلاعب بعقولهم ببضعة حركات سحريّة، أشبه بأسرى للدهشة، يمكن استلابهم بسهولة، كالعمال الذين يستهلكون صناعة التسليّة "الساحرة"، التي تُحرضهم على العمل والإنتاج، فالزومبي هو العامل المثالي من وجهة نظر النظام الرأسمالي كونه يقدم "جهداً مجانياً".
بالعودة إلى الخطأ الطبي، ظهر مصطلح الزومبي مرة أخرى نتيجة أنواع من المخدرات، سواء كانت ممنوعة أو محط جدل، فهناك عدد من الحوادث التي وظفت فيها كلمة الزومبي لوصف بعض المدمنين بوصفهم يلتهمون المارة ويعضونهم، في خطاب عدوانيّ ضد أشكال "الإدمان"، أو "التجريب"، ويأتي هذا التوصيف امتداداً للحرب ضد المارغوانا، بوصف مدمنيها كالزومبي، بطيئين، يأكلون دوماً، ويتحركون ضمن جماعات إدراكها لما حولها ضئيل، وهذا ما لا نجده في الواقع.
اقــرأ أيضاً
يظهر مفهوم الزومبيّ أو ما يشبهه ضمن الأنظمة السياسيّة بوصفه وسيلة لنشر الرعب بين الناس، والتهديد بجموع تريد اجتياح بلادهم و"التهامهم" والقضاء عليهم، في محاولة لدمج المتخيّل مع الحقيقي. هذا ما نراه في التعامل مع أفواج اللاجئين، بوصفهم جموعاً لا تمل ولا تكل، ذات هدف واحد وهو "العبور"، ولا بد من استخدام العنف لإيقاف حركتهم، عبر إطلاق النار أو الصعق بالكهرباء، بل حتى مفهوم الجدار نفسه لا يصلح معهم بوصفهم قادرين على تسلقه والتعاون مع بعضهم بعضاً لتجاوزه، كما في لقطات من فيلم "world war Z"، فهم يشكلون تهديدا كونهم يمثّلون آخر مختلفاً، لا بد من ردعه وشل حركته. وباء يهدد الجسد الوطني لدرجة التهامه، كما نرى في الخطابات العنصريّة.
الرعب ذاته الحاضر في الخطاب الإعلامي، نراه في التلاعب بتعريفات الحياة والموت، كحالة صور جمال خاشقجي التي نُشرت تعلن موته قبل مقتله. الأمر ذاته لاحقاً في الصور المفبركة التي نُشرت قبل إثبات مقتله.
هذه الميوعة في تعريفات الحياة والموت نراها أيضاً في الأنظمة القمعية، كحالة زينب حصني، السوريّة، التي قيل إن النظام السوري قتلها لتظهر حية لاحقاً على التلفزيون الوطني، في حين أن أهلها تسلموا جثة لا نعلم لمن هي. هذه الأشكال من الرعب تهدد المشاهد وفهمه لمعنى الموت والحياة وتعريفاتهما السياسيّة، التي تراهن الأنظمة عليها للإمعان في سيطرتها على موضوعاتها.
بالعودة إلى صورة الزومبيّ، هي تمثل الطبيعة البشريّة الصرفة في تصوراتها "الإنسانويّة"؛ كائنات تتحرك فقط نحو شهواتها البدائية، الالتهام ثم الالتهام، ولا تمتلك وعياً بالعالم والعلاقات ضمنه، هي التي يتركز فيها وعي اللحم البشري على هدف واحد، وهو الحركة الدائمة واستهلاك كل ما هو "حيّ"، وهنا يأتي موقفنا منهم كـ"واعين"، وهو النجاة من جهة والقضاء عليهم من جهة أخرى، ثم الاختلاف عنهم لا فقط في رغباتنا، بل أيضاً في أشكالنا وترميمنا لأنفسنا، وتجميل لحمنا، عبر استهلاك كل ما هو خارجي لنلائم إيقاع العالم الحيّ.
ما يهمنا هو التوظيف السياسي والإعلاميّ لصورة الزومبي؛ إذ ظهر هذا المفهوم على الشاشة في بدايات القرن العشرين ونراه بوضوح في فيلم "الزومبي الأبيض" الصادر عام 1932، عن حكاية امرأة وخطيبها. يتم تحويل المرأة إلى زومبي على يد ساحر فودو، بعد زيارتهما لهاييتي، التي تحوي زومبيز يُستخدمون لمهمات مختلفة. هم أشبه بـ"عبيد" خاضعين للسيطرة، كيانات تقوم بكل الواجبات و"الأعمال". وهنا تظهر صورة الزومبي بوصفها بديلاً ديستوبياً عن تلك الفترة في الولايات المتحدة، حيث تصاعدات الحركات العمّالية ومحاولات تجاوز الكساد الاقتصادي؛ فالزومبي يمثل العامل المثاليّ، بلا عقل، بلا وعي ولا شخصيّة، ولا حاجة لدفع "أجر" له، فقط الحفاظ على "استمراره". وهنا يأتي توصيف فليكس غوتاري وجيل دولوز للزومبي في كتابهما "ضد أوديب" بوصفه "كائناً فصامياً"، وهو ما ينطبق على العامل الذي يرى أن زمن العمل زمن ميت، وبعده زمن الحياة، وكأننا نعيش لثماني ساعات كأموات في العمل، لنحيا بعدها.
يظهر الزومبي في الفيلم السابق كمعادل للسكان الأصليين، "البرابرة" و"الوحوش"، الذين يمكن التحكم بهم والتلاعب بعقولهم ببضعة حركات سحريّة، أشبه بأسرى للدهشة، يمكن استلابهم بسهولة، كالعمال الذين يستهلكون صناعة التسليّة "الساحرة"، التي تُحرضهم على العمل والإنتاج، فالزومبي هو العامل المثالي من وجهة نظر النظام الرأسمالي كونه يقدم "جهداً مجانياً".
بالعودة إلى الخطأ الطبي، ظهر مصطلح الزومبي مرة أخرى نتيجة أنواع من المخدرات، سواء كانت ممنوعة أو محط جدل، فهناك عدد من الحوادث التي وظفت فيها كلمة الزومبي لوصف بعض المدمنين بوصفهم يلتهمون المارة ويعضونهم، في خطاب عدوانيّ ضد أشكال "الإدمان"، أو "التجريب"، ويأتي هذا التوصيف امتداداً للحرب ضد المارغوانا، بوصف مدمنيها كالزومبي، بطيئين، يأكلون دوماً، ويتحركون ضمن جماعات إدراكها لما حولها ضئيل، وهذا ما لا نجده في الواقع.
يظهر مفهوم الزومبيّ أو ما يشبهه ضمن الأنظمة السياسيّة بوصفه وسيلة لنشر الرعب بين الناس، والتهديد بجموع تريد اجتياح بلادهم و"التهامهم" والقضاء عليهم، في محاولة لدمج المتخيّل مع الحقيقي. هذا ما نراه في التعامل مع أفواج اللاجئين، بوصفهم جموعاً لا تمل ولا تكل، ذات هدف واحد وهو "العبور"، ولا بد من استخدام العنف لإيقاف حركتهم، عبر إطلاق النار أو الصعق بالكهرباء، بل حتى مفهوم الجدار نفسه لا يصلح معهم بوصفهم قادرين على تسلقه والتعاون مع بعضهم بعضاً لتجاوزه، كما في لقطات من فيلم "world war Z"، فهم يشكلون تهديدا كونهم يمثّلون آخر مختلفاً، لا بد من ردعه وشل حركته. وباء يهدد الجسد الوطني لدرجة التهامه، كما نرى في الخطابات العنصريّة.
الرعب ذاته الحاضر في الخطاب الإعلامي، نراه في التلاعب بتعريفات الحياة والموت، كحالة صور جمال خاشقجي التي نُشرت تعلن موته قبل مقتله. الأمر ذاته لاحقاً في الصور المفبركة التي نُشرت قبل إثبات مقتله.
هذه الميوعة في تعريفات الحياة والموت نراها أيضاً في الأنظمة القمعية، كحالة زينب حصني، السوريّة، التي قيل إن النظام السوري قتلها لتظهر حية لاحقاً على التلفزيون الوطني، في حين أن أهلها تسلموا جثة لا نعلم لمن هي. هذه الأشكال من الرعب تهدد المشاهد وفهمه لمعنى الموت والحياة وتعريفاتهما السياسيّة، التي تراهن الأنظمة عليها للإمعان في سيطرتها على موضوعاتها.
بالعودة إلى صورة الزومبيّ، هي تمثل الطبيعة البشريّة الصرفة في تصوراتها "الإنسانويّة"؛ كائنات تتحرك فقط نحو شهواتها البدائية، الالتهام ثم الالتهام، ولا تمتلك وعياً بالعالم والعلاقات ضمنه، هي التي يتركز فيها وعي اللحم البشري على هدف واحد، وهو الحركة الدائمة واستهلاك كل ما هو "حيّ"، وهنا يأتي موقفنا منهم كـ"واعين"، وهو النجاة من جهة والقضاء عليهم من جهة أخرى، ثم الاختلاف عنهم لا فقط في رغباتنا، بل أيضاً في أشكالنا وترميمنا لأنفسنا، وتجميل لحمنا، عبر استهلاك كل ما هو خارجي لنلائم إيقاع العالم الحيّ.