أشاعت الاستقالة الجماعية لفريق العمل في مجلة "دفاتر السينما" جوّاً من الأسى والتحسّر، في أوساط السينمائيين. للمجلة الفرنسية هذه مكانة خاصة في قلوب الـ"سينفيليين"، لعراقتها وتأثيرها الكبير على تاريخ السينما، منذ تأسيسها عام 1951.
تأثيرٌ متمثّل تحديداً بالدور المهمّ الذي لعبه بعض النقاد المتعاونين مع المجلة، وأبرزهم: جان ـ لوك غودار وفرنسوا تروفو وكلود شابرول، المساهمين في إطلاق "الموجة الجديدة" التي نفخت رياحاً مجدِّدة في جماليات السينما ومفاهيمها، لا يزال مفعولها سارياً لغاية اليوم، بفضل مقالات خالدة، لها ما قبلها ولها ما بعدها، على غرار "توجّه معيّن للسينما الفرنسية" لتروفو، و"التوليف، همّي الجميل" لغودار، ومقالة جاك ريفيت حول "كابو" للإيطالي جيلو بونتيكورفو، واصفاً فيها، بجملة ختامية مأثورة، حركة الكاميرا نحو يد إمانويل ريفا، الملتصقة بالسلك المكهرب، بلفظ الدّناءة، فأصبحت بعد هذا شعاراً مفاده أن تقنيات السينما ليست مجرّد حركات تستهدف التزيين والإثارة، بل لغة تترتّب عليها تعابير أخلاقية وجمالية، ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار.
نقّاد كبار تعاقبوا على رئاسة المجلة، أبرزهم أندري بازان، من رعيل المؤسّسين، وسيرج داني، المضطلع رفقة سيرج توبيانا بمهمة إخراج المجلة من مستنقع طغيان التوجّه السياسي الماوي على خط تحريرها، في سبعينيات القرن الـ 20.
في بداية فبراير/ شباط 2020، وضع ريشار شلاغمان المجلة التي يملك أسهمها منذ عام 2008، على لائحة البيع. تمكّنت مجموعة مكوّنة من 20 مستثمراً، أغلبهم "سينفيليين"، من اقتنائها، بينهم رجال أعمال، أمثال كزافييه نييل، أحد مالكي مجموعة "لو موند" الصحافية، ومارك سيمونسيني، مؤسّس موقع التعارف "ميتيك".
مباشرة، أعلن المساهمون الجدد عن رغبتهم في إعادة التفكير في فلسفة المجلة: "سنفكّر في شراكات جديدة، وفي الصيغة التي يمكن أن نتعاون عبرها مع مهرجان "كانّ" وهيئات التكوين، ومع كلّ من يفكّر حول السينما. سندشّن برنامج عمل مهماً حول التفكير في إشعاع المجلة وانفتاحها على محيطها"، يقول إريك لونوار، أحد المساهمين، المكلّف بإدارة المهمّة. خروج إعلامي أقلق فريق عمل "دفاتر السينما"، ودفعه إلى إصدار بيان صحافي يعبّر عن قلقه على حرية خطّ تحرير المجلة، والخطر المحدق بتوجّهها التاريخي.
مساء 27 فبراير/ شباط الماضي، قدّم فريق "دفاتر السينما" استقالة جماعية، مُستفيداً من قانون يمنح الصحافيين الحقّ في المغادرة، مع التعويض عن البطالة، في حالة تغيّرَ مالكو أسهم المجلة، بعد نحو شهر على اقتنائها من مجموعة المستثمرين هؤلاء، وبينهم منتجون فرنسيون أمثال باسكال كوشتو، مؤسّس شركة "واي نوت" التي أنتجت "ديبان" لجاك أوديار و"أنا، دانيال بلايك" لكِنْ لوتش، ودانييل بارال وتوفيق عيّادي، منتجَي "البؤساء" للادج لي.
ما زاد الطين بلّة، تعيين جولي ليتيفو، إحدى المساهمات الجديدات في رأس مال المجلة، مندوبة لقسم "أسبوعا المخرجين" في مهرجان "كانّ".
في الخمسينيات، أسست المجلة لشنّ الحرب على السينما المهذّبة السائدة آنذاك في فرنسا. اليوم، يريد المالكون الجدد أن يصنعوا منها مجلة "شيك" (أنيقة) و"ودودة"، كما يقول جان فيليب تيسييه، نائب رئيس التحرير، والصحافي العامل في "الدفاتر" منذ 17 عاماً، في مقالة له في "لوموند" الفرنسية. "كيفما كانت المقالات المنشورة عن أفلام هؤلاء المنتجين، سيتمّ الاشتباه في أننا نراضيهم"، يستطرد تيسييه.
من جهته، يشرح ستيفان دولورم، رئيس تحرير المجلة المستقيل، موقف فريق تحريرها، بالقول: "صُدمنا لأول مرة عندما اكتشفنا أنّ جميع هؤلاء المنتجين للسينما الفرنسية ينتمون إلى مجموعة المساهمين الجدد. وجود هذه الأسماء يثير حتماً مسألة تضارب المصالح. فكّر العديد من الصحافيين، بمن فيهم أنا، في إمكانية البقاء، والمقاومة من الداخل. هل يمكن أن نضع حدوداً واضحة مع المساهمين، وأنْ ندقّ ناقوس الخطر علناً، عند عبور الخط الأصفر؟ بعد اجتماعات عديدة، بدا هذا السيناريو معقداً، بل يستحيل تنفيذه. في الوقت نفسه، حاولنا فهم نوايا إريك لونوار وشخصيته، كونه ليس منتجاً أو صحافياً (إنّه الرئيس التنفيذي لشركة (سيري) للأثاث)، فلم يكن أحد من الفريق يعرفه. اتّضح أنّه كان قارئاً نهماً لـ"دفاتر السينما" منذ 30 عاماً. ربما يُفسّر هذا رغبته العارمة في ربط الوصل بفترة معينة من النقد شهدها في شبابه".
أردف دولورم قائلاً: "النقد بالنسبة إلى هؤلاء حبّة الرمل التي تتسبّب في تعطيل الآلة".
بيان فريق التحرير حول الاستقالة يتوقّف أيضاً عند تعارض المواقف السياسية للمجلة مع مواقف بعض المساهمين الجدد، القريبين من دائرة السلطة: "تموضعت "دفاتر السينما" ضد المعالجة الإعلامية الظالمة لحركة "السترات الصفراء"، وضد الإصلاحات التي تؤثّر على الجامعة والثقافة (بطاقة الولوج للخدمات الثقافية). وتساءلت عن شرعية وزير الثقافة عند تعيينه، الوزير الذي قام بتهنئة المستثمرين الجدد على استحواذهم على هذه الشركة الخاصة.
هنا أيضاً، للمساهمين اهتمامات (تدفعنا إلى طرح تساؤلات)". ويختم: "أخيراً، في الوقت الذي تمّ فيه شراء الصحف كلّها من شركات الاتصالات الكبرى (...)، نرفض هذا التركيز في أيدي الأشخاص أنفسهم، الذين يمتلكون اليوم منابر كانت حرة في السابق".