ثلاث ثنائيات وفرد يلتقون جميعاً في عشاءٍ، يُراد له أنْ يكون لقاءً بين أصدقاءٍ، بعد وقتٍ طويل على غيابٍ غير مقصود. كلّ واحد من هؤلاء يمتلك شيئاً حيوياً؛ فالعشاء فرصةٌ لسهرةٍ، تترافق وخسوفاً للقمر، يُفترض به أنْ يكون كاملاً، ما يعني أنّ "حاجات غريبة ستحصل حينها"، كما يقول شريف (إياد نصار)، زوج مريم (منى زكي)، في بداية "أصحاب... ولا أعز" (2022)، للّبناني وسام سْمَيْرة (نتفليكس).
الحالات الغريبة ستحصل، لكنّها غير متأتية من عوامل طبيعية، أو من فانتازيا الرعب والخيال العلميّ، رغم أنّ بعض الحاصل في العشاء أقرب إلى الغرائبيّة المخيفة، إذْ تسقط أقنعة، وتُكتشف خفايا، ويُصدَم كثيرون بمسائل يجهلونها، ويتّخذ البعض مواقف إزاء تفكيرٍ وسلوكٍ وعلاقاتٍ.
ذوات منغلقة على أسرارها
أصدقاء منذ زمن المدرسة يتواجهون بحدّة وعنفٍ، بناءً على لحظةٍ تنفلت الأمور فيها لوقتٍ قليل. أزواجٌ يتعرّون أمام ذواتهم وزوجاتهم والآخرين، وفضائح تُعلِن هشاشة علاقة، تتنوّع بتنوّع الأشخاص. الواجهة تتحطّم شيئاً فشيئاً، والمستور ينكشف تدريجياً، وكلّ واحدٍ يُظهر شيئاً من حقيقته التي يُخفيها قصداً، عن الآخرين، وربما ـ أولاً وأساساً ـ عن نفسه، وإنْ من دون قصدٍ. الحبّ ينزوي بعيداً، فاللعبة ـ التي تقترحها ميّ (نادين لبكي) في بداية العشاء ـ مدخلٌ إلى ذواتٍ منغلقة على أسرارها، وإلى أرواح هائمةٍ في فوضى العيش، وإلى أجسادٍ تريد تحرّراً من روتينٍ يُصيب حياةً يومية بأعطابٍ وخضّات، وإلى نفوسٍ تمارس في الظاهر ما يُخفي باطناً، يؤدّي ـ في لحظةٍ ما ـ إلى انفجارٍ عنيفٍ.
تقترح ميّ، زوجة وليد (جورج خبّاز)، اللذان يُقيمان العشاء في منزلهما، وضع الهواتف الخلوية كلّها على الطاولة، وإشراك الجميع بكل اتصال يرد على أي هاتف، وكلّ رسالة إلكترونية أو تسجيل صوتي أو صُور، ترد كلّها على الهاتف من أي مصدرٍ (فيسبوك، واتساب، إنستغرام، رسائل هاتفية، إلخ). أي أنْ يكون هاتف فلان، في حال ورود أي شيءٍ إليه، مفتوحاً أمام الجميع. هذا يعني إسقاطَ كلّ حاجز بين خاص وعام، والإسقاط يحصل مع كشف كلّ خاص أمام العام. الكشف غير محصور بشيءٍ محدّد، بل بكلّ شيءٍ من دون استثناء.
اقتراحٌ كهذا يُربِك البعض، فيحاول هذا البعض التنصّل من اللعبة، من دون جدوى. كلّ اتصال يرد، يكشف شيئاً ما، لن يكون بالضرورة سلبياً، فبعض المسائل تقول إنّ صاحب الهاتف صادقٌ في اعترافه، بينما آخرون يتعرّون فعلياً أمام الجميع. كلّ واحدٍ من الساهرين يُخفي شيئاً: علاقة عاطفية، ارتباط فيسبوكيّ لتمضية وقتٍ ولبعض التسلية في مواجهة حياة زوجية معطّلة، مثلية جنسية، خيانات تخرج من الإطار الزوجيّ إلى العلاقة بين الأصدقاء وزوجاتهم. اشتباكاتٌ تقول إنّ الواجهة الجميلة تحاول إخفاء انهيارٍ مرير في الذات والعلاقة.
انكشافُ هذا يفرض على البعض اتّخاذ مواقف أخلاقية، بينما يُقيم في دائرة تُناقض كلّ موقفٍ اخلاقي يقول به علناً. محاولة الهروب من فضيحةٍ صغيرة تؤدّي، بعد وقتٍ قليل، إلى مأزقٍ غير متوقّع، إذْ يُصرّ شريف على ربيع (فؤاد يمّين) أنْ يتبادلا جهازي الهاتف الخلوي بينهما، لأنّ مصيبةً ستحلّ على شريف، فعند العاشرة مساءً ستُرسل إحداهنّ صوراً خليعة لها على هاتفه. هذا يؤدّي لاحقاً إلى انكشاف المثلية الجنسية لربيع، وهذه صدمة للجميع، رغم أنّ الجميع يدّعون انفتاحاً وتحرّراً في مسائل اجتماعية وحياتية وانفعالية. لميّ عشيقٌ سيظهر عند ورود اتصالٍ من صاحب محلّ مجوهرات إلى زياد (عادل كرم)، زوج جنى (ديامان أبو عبّود) وصديق وليد وشريف منذ سنين. فزياد يشتري مجوهرات لعشيقةٍ، قبل أنْ تكتشف ميّ أن لعشيقها زياد عشيقة أخرى، وهي حامل، إذْ تتصل به وتُخبره عن هذا، بارتباك وقلِق وخوف.
لميّ ووليد ابنةٌ تُدعى صوفي (شنيد شعيا)، ستبلغ 18 عاماً بعد أسابيع قليلة. علاقة صوفي بوالدها أمتن من علاقتها بوالدتها. تبوح ـ في اتصال هاتفي بوالدها ـ عن تردّدها إزاء إقامة علاقة بحبيبٍ لها، فيُجيبها الوالد بما يُعتَبَر أجمل ردٍّ إنساني وأخلاقي لأبٍ إزاء لحظةٍ كهذه. ولعلّ هذا المشهد، بكيفية تأدية جورج خبّاز دور الأب بصدقٍ إنسانيّ بهيّ، يبقى أحد أجمل مشاهد الفيلم، وأعمقها وأمتنها، درامياً وجمالياً وحسّياً، خاصّة مع جلوس مي/نادين لبكي إلى جانبه، فيبدوان معاً في أجمل لحظة صادقة إزاء علاقة أهلٍ بابنة مُراهقة، تخطو خطواتها الأولى إلى مرحلةٍ أخرى من عمرها.
مشاهد عدّة مُثيرة للانتباه: الصدام القاسي بين مريم وشريف، الصدام الأقسى بين جنى وزياد، ردّ فعل مريم وجنى (حركة وتعابير وجه وجسد ونظرات، إلخ)، اعتراف ربيع بمثليته الجنسية، بلاغة وليد في قوله إنّه يخضع لعلاجٍ نفسيّ. هذه مسائل مشغولة بحِرفية سينمائية، وبأداء يقول إنّ كلّ عفوية فيه مبنية على مهنيّة متينة الصُنعة.
المهنيّة الفنية والتقنية والدرامية
حكاية "أصحاب... ولا أعزّ" معروفة: هذه نسخة عربية من الفيلم الإيطالي "غرباء تماماً" Perfetti Sconosciuti، لمخرجه باولو جينوفيزي (2016)، وعنوانه العالمي بالإنكليزية Perfect Strangers. النسخة العربية مشغولة بحِرفية سينمائية، تمزج المهنيّة الفنية والتقنية والدرامية، رغم كونها منقولة عن النصّ الإيطالي الأصلي، بأداء يرتكز على بساطة التعبير والحركة والنبرة، وعلى عفويةٍ منبثقة من اختباراتٍ، ومتأتية من مصداقية الشخصيات، التي تعكس أشياء كثيرة من تفاصيل العيش في مجتمع عربيّ، لا يزال منفضّاً عن قول حقائق يوميّاته في العلاقات والحبّ والجسد والجنس والصداقة والانفعال. حيوية الحوارات ومصداقيّتها متلائمتان مع واقع عربيّ، يُخفي أكثر مما يَكشِفُ، ويَختبئ ويُخبِّئ أكثر مما يَظهَر ويُظهِر.
هذا لن يضع "أصحاب... ولا أعزّ" في مرتبة أكبر منه. حِرفيّته تعني التزاماً بقواعد صُنع فيلمٍ سينمائي. أداء الممثلات والممثلين يعكس مهنيّة واضحة، وتناغماً مع كل شخصية، وإتقاناً في تمثيل العلاقات القائمة بين الشخصيات، وبين كلّ شخصية وذاتها. الحوارات متنوّعة المواضيع، لكنّ سياقها متين البُنية الدرامية، إذْ تنتقل الحوارات من موضوعٍ إلى آخر من دون أيّ قطعٍ صادم أو تغيير قاسٍ، بل بتناسقٍ يؤكّد طبيعتها وواقعيتها.
فيلمٌ مُسلِّ، وتسليته مفتوحة على تعرية مبسّطة وحيوية لمآزق أناسٍ واجتماع، تُصيب (المآزق) عرباً كثيرين أيضاً، أو ربما أساساً. ورغم أنّ التزام النصّ الأصلي شرطٌ أساسيّ لإنجازه، تبدو الخاتمة (التي تقول إنّ شيئاً لن يتغيّر، رغم كلّ الحاصل في سهرة العشاء) كأنّها متسرّعةٌ في إنهاء سيرة هؤلاء وأحوالهم وانفعالاتهم، وانقلاباتهم أيضاً.