مرّة أخرى، يعود جو رايت إلى السينما بفيلمٍ ("امرأة النافذة"، يُعرض على شاشة المنصّة الأميركية "نتفليكس") مُقتبس من رواية مشهورة، عن امرأة مُتفرّغة، تتجسّس على جارٍ جديدٍ من نافذتها. الجار القديم لا جديد لديه.
لبّ العلاقات الاجتماعية كامنٌ في ثنائية "نحن نراقبكم" و"نحن أيضاً". التواصل إجباري، لأنّ العزلة تقود إلى الجنون. يحتاج الفرد إلى أنْ يتلصّص ويجلب أنظار الآخرين إليه. يُراقبهم، ويتدخّل في حياتهم. يصير هذا مصدر شقائه. ينتج الفضول عن الفراغ الداخلي، وتوفّر وقت فراغ زائدا. لذلك، لا يحترم الفضوليّ حميمية الغير. الفضول أقلّ ضرراً من العزلة، التي تُسبّب حالةً نفسية داكنة.
يبدأ الفيلم بمفارقة: طبيبة نفسية وامرأة مضطربة نفسياً. باب النجّار مكسور. تجري جلّ الأحداث في البيت. فيلم تشتبك فيه الشخصية بالمكان. كلّ التصوير داخلي. ما أصعب التصوير في مكان مغلق.
منزل كبير معتم صامت. كلّ صوت صغير، يصدر فجأةً، يصير مُخيفاً. إخراجٌ، فيه وعي حاد بالإيقاع. إيقاعٌ سريع للاحتفاظ بمُشاهِد مَلول. لذلك، تمّ ضخّ المعلومات التي لا يُمكن تصويرها في الحوار. مع سلاطة تسلية، فيها تمارين التحكّم بالغضب والخوف، وحفنة علم نفس لإضاءة حاضر الشخصية وماضيها وأحلامها. حوارات نفسية طويلة. جحيم البحث عن الهاتف في المنزل. يحلّ الهاتف الخلوي المشاكل كلّها. هذا مُضرّ بحركة الممثل، وبالسينما. الهاتف سلاحٌ ذو حدّين.
امرأة مضطربة نفسياً، مُحتجزة لأسبابٍ طبية، تراقب الجيران من نوافذ منزلها. يبدو أنّ الفيلم مُصوّر في أيام الحجر الصحي. لذلك، النافذة نقطة إطلالة وحيدة على العالم الخارجي. جيران مُصابون بالفضول، والفضول يُغذّي الوقاحة. أحد الجيران أبٌ في صراعٍ مع ابن، كما في "الجمال الأميركي" (1999) لسام مانديس. هناك حربٌ دائمة في كلّ أسرة. لا شيء يجري كما هو متوقّع. تنكشف الحقيقة البشرية حيث لا ينتظرها أحد. للنزوات العابرة كلفة ثقيلة دائمة. لا تتغير الشخصية إلا بعد محنة. يُحتمل أنْ يقتل الفضولُ القطط.
في زمن العزلة، يواجه الإنسان ذاته، فيهرب منها بالتلصّص على آخرين. زاد هذا في زمن الحجر الصحي، في المجتمعات كلّها. كشف وباء كورونا حجم العنف المستتر في البشر. راكم جو رايت خبرةً في تصوير العنف، كما في "آنا كارينينا" (2012)، المقتبس من رواية بالعنوان نفسه لليون تولستوي: مشهد قَتل النبيلُ الروسي المتعجرف فرسَه، الذي تعثّر في السباق. ما الذي جعل مُخرجاً مُتمرّساً، اقتبس تولستوي، يُصوّر سيناريو خفيفاً كهذا؟ السيناريو خفيف: لماذا؟ لأنّه لا يحاول قول كلّ شيءٍ في 90 دقيقة.
ربما يكون السبب في أنّ الرواية المُقتبسة مكتوبة بمرجعية سينمائية، بحسب مقالةٍ منشورة في "نيويورك تايمز" (3 يناير/كانون الثاني 2018)، تتبع كاتبُها الأفلام التي استلهم منها الكاتب مَشاهد روايته. اقتبس جو رايت رواية آي. جي. فين، وظلّ وفياً لعوالمها. يُصوّر يوميات امرأة فضولية، مُسلّحة بكاميرا، وتتلصّص من النافذة. هذا يذكر بـ"النافذة الخلفية" (1954) لألفرد هيتشكوك، وفيه يتسلّح الصحافي بكاميرا ذات عدسة سحرية. ما وظيفة العدسة؟ تُقرّب البعيد، وتوضح الغامض، وتبحث في المناطق المعتمة وتضيئها. عادةً، يُرمز للبحث والتحقيق بأيقونة عدسة مُكبّرة، تكشف الغامض والمستتر. يُقرّب الـ"فوكيس" ما يُراقَب، كما تُقرِّب منصّات المشاهدة الأفلام القديمة.
توجد تشابهات كثيرة بين فيلمي هيتشكوك ورايت: تصوير السلالم في "ترافلينغ". طبعاً، استخدام النافذة، و"فوكيس" الكاميرا للتلصّص. كاميرات عام 1954، التي صوّرها هيتشكوك في فيلمه، أقلّ دقّة وأكبر حجماً من كاميرات عام 2021.
يحكي "النافذة الخلفية" يوميات مُصوّر كُسرت قدمه. يراقب من كرسيه جيرانه عبر نوافذ شققهم. تركّز الكاميرا على وجه من يَنظر، ثم تنتقل إلى ما يراه. تقترب منه في حركة "ترافلينغ" إلى الأمام، أو "زوم"، حركة "فوكيس". بما أنّ المُصوّر لا يتحرّك، يُقلِّص المنظار و"فوكيس" الكاميرا المسافة، ويُسهّلان التلصّص من النافذة. فيه، تظهر قدرة هيتشكوك على استخدام "كادر" كبير مُتحرّك، يجعل التبئير مُتغيّراً. كلّما قلّت المسافة، كثرت التفاصيل المُقدّمة. العكس صحيحٌ.
للنافذة مكانة كبيرة في السرد المعاصر. يقول جيرار جينيت إنّ النافذة تسمح بترك القصة "تروي نفسها بنفسها" ("عودة إلى خطاب الحكاية"، ص. 171)، فيما يشبه التداعي من دون سارد علِيم يُعلّق باستمرار، وهذا حال الكاميرا التي تعرض وترصد ولا تُعلّق، وتوهم بالحياد التام، بخلاف الراوي الأدبي التقليدي، الذي يقطع السرد ليعلّق ويفسّر بإطناب. في تحليله رواية مارسيل بروست، قدّم جينيت النافذة كمثلٍ لحجب جزءٍ أو أكثر مما يُرى. لهذا العائق فوائد، منها الفرز والانتقاء (المرجع نفسه، ص. 177 ـ 178). استخدم الروائي الفرنسي آلان روب غرييه النافذة كحيلة فنية، في روايته "الغيرة". ذكر النافذة أكثر من 28 مرّة، ومنها يُراقب الزوج البارد زوجته، من دون أنْ يُعلّق على ما يرى، أو يُفسّره.
نظراً إلى ما يجمع الرواية والفيلم، هذه لغة بصرية تُقرّب بين الأدب والسينما، في أفلامٍ تجمع بين الجريمة، التي تُشبِع شوق الجمهور إلى التسلية، والتناص السينمائي، الذي يُشبع شوق الـ"سينفيليين" إلى الأسلبة.