استطاع المخرج بشير درايس، في فيلمه "بن مهيدي" المثير للجدل (لم يُعرض تجارياً بعد)، أنْ يكسر الخطّ الذي رسمته الأفلام الثورية الجزائرية، بدءاً من عام 2008. هذه مرحلة لم تُنتَج فيها أفلامٌ تعالج الثورة كفكرة شاملة، لا تعترف بدور الفرد، انطلاقاً منْ أنّ "الشعب هو البطل الوحيد"، إلى مرحلة تُمجّد الفرد، وتُظهر بطولاته ومحطّاته وأدواره الرئيسية في الثورة التحريرية (1954 ـ 1962)، راسمةً لنفسها خطّاً جديداً، بل اتّبعت الخطّ الجديد الذي رسمته السلطة لأهدافٍ ما.
لذا، أُحْرِجَ مخرجون عديدون مع تلك الأسماء، لأنّ التمجيد ينطلق من السردية الرسمية ونظرتها إلى التاريخ، فجُرِّد هؤلاء الثوار الأبطال من الخصائص الإنسانية التي للإنسان بشكل عادي، مع تغييب السلوك الذي يراه المجتمع منافياً للأخلاق والدين والقيم، عامة. لذا، جُرِّدت معظم تلك الأفلام ـ خاصة الجديدة منها، والمنجزة بعد عام 2008 ـ من بُعدها الدرامي، فلا روح فيها، ولا حياة، كأنّها تُقدّم صُوَر قدّيسين، لا صُوَر بشر عاديين.
لم تُصنع فُرجة، تمّ تجريدها من التأسيس الفني. أكثر من هذا، انتصرت للسردية التاريخية التي تتبنّاها السلطة، ولا تطرح الأسئلة الحرجة، ولا تذهب إلى المعطيات المفصلية، القابلة للنقاش والتداول، أو إلى المحطّات التي تُسبّب الصداع والخلاف. لذا، تجاوزوا أحداثاً مهمّة عدّة، كأنّها لم تقع إطلاقاً، خوفاً من سلطة الرقيب. بالإضاقة إلى تركيزهم على المعارك والمواجهات الحربية والعمل العسكري، مع تغييب شبه كلّي للدور السياسي، المحوري في التأسيس للثورة التحريرية، وتعبئة الجماهير، وتجهيزها للثورة.
طبعاً، هناك أفلام قليلة جداً تناولت العمل السياسي، لكنّها تعاملت ببرودة تامة مع الموضوع. كذلك، هناك أفلامٌ نقدية لاذعة، أُنجزت في عهد الحزب الواحد الحاكم في الجزائر وقوّته، كـ"الفحام" (1972) لمحمد بوعماري، و"سنوات التويست المجنونة" (1986) لمحمود زموري، و"يوسف، أو أسطورة النائم السابع" (1993) لمحمد شويخ. هذه أفلامٌ انتقدت الثورة الجزائرية وصنّاعها، الذين تحوّلوا إلى تجّار وطنية بعدها، يتسابقون من أجل الريع. أفلامٌ مرّت مرور الكرام، ولم تُحدث تغييراً كبيراً، ولم تُمنَع، على نقيض "الوهراني" (2014) لإلياس سالم، الذي مُنع بطريقة غير مباشرة.
وصولاً إلى فيلم بشير درايس، كمحاولة لتجاوز ذلك الخطّ، الذي يعتمد على التمجيد الكلّي وتغييب الدور السياسي، أو الذي لا يطرح الأسئلة المهمة، خوفاً من الرقيب. لذا، سيكون "بن مهيدي" مفصلياً في تاريخ السينما الجزائرية الحديثة، يُشبه ـ إلى حدّ بعيد ـ الدور الذي لعبه مرزاق علواش بـ"عمر قتلاتو" (1976)، الذي أسّس مرحلة جديدة في السينما الجزائرية، وفتح مجالاً للمخرجين لتحقيق أفلامٍ غير ثورية.
سيكون لدرايس الدور نفسه، لاختياره أحداثاً غامضة ومُثيرة للجدل، مُتعاملاً معها براحة الواثق من نفسه ومن مصادره التاريخية، ومواجهاً الحقائق المغيّبة من دون أنْ يخشاها، ومُتجاوزاً سلطة الرقيب وقمعه، وكاسراً الخطّ القديم، الأمر المحوري الذي تخشاه السلطة الرسمية، ولا تريد أنْ يصبح هذا النوع السينمائي سائداً، لتتجنّب نقاشات عميقة، تُجرّدها من عصا التاريخ التي تستعملها. لذا، تُصرّ على عدم الموافقة على عرضه إلى الآن، وفي كلّ مرة تتحجّج بسياقات غير مؤسّسة، ولا تستند على أي منطلق علمي تاريخي.
يُعدّ الشهيد العربي بن مهيدي (1923 ـ 1957) أحد أهمّ وأشهر رجال الثورة الجزائرية، بفضل مسار مضيء مرّ فيه، ودوره الكبير في هندسة الثورة وإطلاقها. بعد القبض عليه، تعرّض لعمليات تعذيب واستنطاق رهيبة من المستعمر الفرنسي، ثم تمّت تصفيته. هذه معطيات رسخت في ذهن كلّ مواطن جزائري. أكثر من هذا، نُسجت حوله قصص وأساطير كثيرة، فأصبح صعباً التعرّض له، وعَكْسه سينمائياً، من دون الوقوع في خلاف ما.
بشير درايس رفع التحدّي، مرتكزاً على سيناريو مراد بوربون وعبد الكريم بهلول. نقل محطات مهمة عدّة في حياة العربي بن مهيدي، التي أثّرت بشكل كبير في بناء وعيه السياسي وحسّه الوطني، منذ طفولته في منطقة "عين مليلة"، في محافظة "أم البواقي"، ثم مُراهقته وشبابه في محافظة "بسكرة"، مع تصوير تلك الفضاءات التي عاش وتربى ونشأ فيها. نقل ملامح الشخصية، ووضعها في سياقها العام، من دون أنْ يجعلها بطلاً خارقاً، مُتعاملاً مع الرمز بكل عقلانية، ومُستظهراً علاقته بوالده وإخوته وخاله، خاصة أنّ لكل فردٍ دوراً مهمّاً في حياته. إضافة إلى إظهار ميوله الفنية، إذْ كان عضواً في فرقة مسرحية، قدّمت "في سبيل التاج"، وفيها دلالات وطنية تُحرّض على استنهاض الهمم.
بخلاف أفلامٍ أخرى جسّدت بعض أبطال الثورة، صوّر بشير درايس قصّة حبّ جمعت العربي بن مهيدي بفتاة، مُظهراً اهتمامه بها وحبّه لها. ولأن الفيلم ينقل الجوانب السياسية للثورة الجزائرية وما قبلها، نقل درايس دور الحركات الوطنية والانتماءات السياسية، ودور كلّ حركة في الثورة، وإنْ سريعاً. هذا ساهم في صنع الوعي السياسي والتأسيس الفعلي للثورة الجزائرية، انطلاقاً من نقاشات ساخنة كانت تحدث بين الثوّار، أو في مؤتمرات مفصلية أثناء الثورة الجزائرية، وقبل اندلاعها.
في خضم هذه السياقات، نقل "بن مهيدي" ـ تمثيل خالد بن عيسى (بن مهيدي) وسمير الحكيم (محمد بوضياف) ومحمد فرمهدي (بن خدة)، وآخرين ـ حقائق تاريخية مهمّة، اتّفق المؤرّخون على كثير منها، لكنّ السلطة رفضتها، فجرت مفاوضات كثيرة بين درايس وإدارة وزارة المجاهدين (شؤون المحاربين القدامى)، بوصفها المموّل الرئيسي للفيلم، بالشراكة مع وزارة الثقافة والفنون، ومؤسّسات اقتصادية خاصة. استجاب درايس لبعض الملاحظات، التي حتّمت حذف مشاهد قليلة. كما أنّها (الجهة الرسمية) تخلّت عن بعضها، بعد إصرار درايس على تقديم الفيلم أمام لجنة محايدة، مؤلّفة من كتّاب تاريخ حقيقيين، فقدّم نسخة جديدة منه، بانتظار اطّلاع الجهة الوصية عليها. نسخة تنتظر قرار الترخيص بعرضها، بشكل نهائي، أو رفض الفيلم مجدّداً، كما حدث في الأعوام الـ4 الماضية.
طرح "بن مهيدي" أسئلة قوية عن أولوية الداخل على الخارج، والسياسي على العسكري، تلك الثنائية التي لا تزال تُطرح، إلى الآن، في نظام الحكم الجزائري، بطريقة أخرى. ورغم أنّ هذه الثيمة تتطلّب تركيزاً كبيراً منه، لم يتخلّ بشير درايس عن العناصر الأخرى، التي تُشكل جسد فيلمه ككلّ متكامل، وأبرزها البُعد الجمالي، الذي يُعتبر المحرّك الأساسي للأحداث والتفاصيل. صنعَ ديكوراً مختلفاً في فضاءات جرت فيها الأحداث، كالمزرعة التي عاش فيها العربي بن مهيدي طفولته، أو محافظة "بسكرة". هذا الفضاء أعاد درايس تأسيسه، خاصة بعض الشوارع الخارجية (تمّ هذا في تونس)، استناداً على مصادر تاريخية وأرشيفٍ بصري. إضافة إلى استعمال سيارات تلك الفترة، واللباس والإكسسوارات والعربات والقطار. تفاصيل تصنع جمالية الفيلم، وتأخذه إلى الفنية، وتمدّ جسر مصداقية بينه وبين المتلقّي. لذا، يسهل احتواء المادة التاريخية التي فيه.
استعان درايس بممثلين لهم رصيد محترم، ويعرفون أهمية الموضوع والشخصيات التي كُلّفوا بأدائها. استطاع كلّ فردٍ فيهم أنْ يعكس تفاصيل الشخصية الثورية التي في أدائه، من ناحية الشكل المُقترب جداً من أشكال الثوريين الحقيقيين، ومن ناحية الأداء القوي الذي قاموا به.
سعى بشير درايس إلى تقديم صورة قريبة جداً من العربي بن مهيدي، ومن المحيط الذي عاش فيه، من دون الدخول في مزايدات سياسية، وتمييع تاريخي. تعامل مع الشخصية بعقلانية، ذاهباً إلى إنسانيتها، بتعاملها مع أصدقائه وعائلته وأخيه. معطيات تُظهر الجوانب الإنسانية، فدرايس لا يتعامل مع بن مهيدي كدرسٍ تاريخي، أو كفيلمٍ وثائقي يقدّم المعلومات، بل قدّم تلك المعلومات من منطلق المواجهة، وعدم الاختباء خلف السرديات التي تقتل التاريخ.