قدّم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ (1943)، في فيلمه الأحدث "جرائم المستقبل" (2022)، المعروض للمرّة الأولى دولياً في المسابقة الرسمية للدورة الـ 75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي، صورة مُصغّرة لما يمكن أنْ يكون عليه المستقبل، واضعاً تصوّرات ونبوءات، من شأنها تنشيط خيال المتلقّي، ووضعه في رواق مواجهة مباشرة بين الإنسان والآلة، وبين التطوّر والتقدّم الصناعيين، وبين العاطفة المسلوبة والمشاعر المجروحة، التي يمكن أنْ يُحدثها هذا التطوّر.
تحذيرٌ قوي من كروننبرغ، يتقاطع كثيراً مع تحذير رفعه قبله ستانلي كوبريك (1928 ـ 1999)، في "2001: أوديسا الفضاء" (1968)، الذي كان نبوءة، أو استشرافاً للعلاقة التي يُمكن حدوثها بين الآلة وصانعها، ما انعكس بشكل ما في محطات حديثة عدّة، بعد نصف قرن على إنجازه.
ينتمي "جرائم المستقبل" إلى أفلام الرعب، وهذا نوعٌ تخصّص فيه كروننبرغ، وبرع. لذا، لم يذهب إلى الرعب المجاني، كأفلامٍ أخرى عدّة، تُهيّج مشاعر الخوف لدى المتلقّي، من دون أنْ تزرع فيه أي قيمة. لذا، جاء مُشبعاً بالرؤى والتصوّرات الفكرية عمّا يمكن أنْ يكون عليه الإنسان مستقبلاً، انطلاقاً ممّا يُحدِثُه عقله من اختراعات واكتشافات، ومدى انعكاسها عليه، وربطها بالعاطفة الإنسانية، ومدى تقيّدها بالغريزة البشرية، عبر نظرتها إلى الأشياء وتعاملها معها. بالإضافة إلى خلق مفاهيم جديدة، جاءت نتيجة إفراط في التقدّم، وربطها بالسلوك العاطفي، كالجنس الذي يكون عادة عبر التواصل الجسدي. فبحسب سردية كروننبرغ، تحوّل هذا إلى سلوك مختلف تماماً، أصبح فيه الالتحام الجسدي القديم "جنساً تقليدياً"، فباتت الشهوة والإثارة تولدان بالنظر إلى جراح الجسد، حين يُغرز فيه مبضع العملية، أو بفضل الدماء التي تسيل منه بعد إعمال آلة التشريح. أي أصبح المنظر يُثير الغرائز، ويوقظها.
لم يكتفِ الفيلم بوضع تصوّرات جديدة لما يُمكن أنْ يكون عليه سلوك الإنسان مستقبلاً، بل صنع مناخاً عاماً لما يُمكن أنْ يكون عليه الفضاء الذي يعيش فيه، ممثّلاً بمنازل قديمة متآكلة، وقاعات عمليات جراحية غير مُعقّمة ومتّسخة، وشوارع خالية لا حياة فيها، ومؤسّسات حكومية جديدة ومختلفة. هذا كلّه بعد اختفاء الألم التقليدي من جسد الإنسان، والقضاء على البكتيريا التي تُسبّب المرض. هذا الفضاء نفسه يطرح أسئلة جوهرية عن السفن الكبيرة القديمة والمركونة مثلاً، وعمّا إذا تطوّر العلم إلى درجة تخلّيه عن السفن، بعد أن أصبحت وسيلة نقل قديمة؛ وعن مصادر الطاقة التي لم تعد موجودة، والأمر نفسه يحدث في الجمال العمراني، وعدم الاهتمام به، إذْ ربما تغيّرت المعطيات الجمالية مع مرور الوقت، ومعه تغيّرت اهتمامات الإنسان، وأصبحت المناظر والمشاهد والعمران أشياء لا معنى لها، أي إنّها باتت وسيلة تؤدّي هدفاً موضوعياً ما.
الدليل على هذا الطرح كامنٌ في تلك النظرة الجديدة للجنس، والتعامل مع الفنّ والجمال، إذْ أصبح الجمال الكلّي ما يُمكن أنْ يكون عليه جسد الإنسان، بتعامله مع المتغيّرات. لهذا، أصبحت الجراحات الطبية، وزرع أعضاء، ومَشاهد الدماء، فنّاً جديداً، وفرجة لا تُعوّض. حتّى إنّ كروننبرغ لم يكتفِ بالتعامل مع بعض البصريات بكونها طقوساً وسلوكاً جديداً، بل طعّمها بمعطيات فلسفية، بثّها في الحوار، كجملةٍ تقولها كابريس (ليا سيدو): "نخلق الفنّ من الفوضى، والمعنى من الفراغ". وأيضاً، بعض النقاشات في مشاهد كثيرة، وهذا معطى منح الفيلم بُعداً فكرياً، وذهب به إلى الجدوى الفنية، كما أعطى بُعداً جديداً لمفهوم الجمال في تلك الحقبة، أي ما يفرزه جسم الإنسان، وما يقدر عليه، كجسد سول تينسر (فيغو مورتنسن)، الذي يفرز بين حين وآخر أعضاءً جديدة فيه، وحين تكتمل، يُجري هو وصديقته كابريس تشريحاً علنياً في قاعة العروض، فتشقّه الآلة "سمارت"، وتُخرج منه ذلك العضو.
هذا يُعتبر فنّاً وجمالاً داخلياً لا يُقاوم. وهكذا، تحوّل الصديقان إلى فنّانَين بالنسبة إلى كثيرين. حتّى إنّ هناك من جَهد في أنْ يُشارك سول في مسابقة الجمال الداخلي، وهذه مسابقة سرّية للأعضاء البشرية.
استطاع ديفيد كروننبرغ أنْ يضع معطيات قوية في "جرائم المستقبل"، تجعل المتلقّي يعتبر أنّ ما يقوم به فنٌّ، والمعطيات موضوعة في الحوار، ما يكشف عمقاً ودلالات فكرية، تمنح الفيلم بُعداً جديداً، وتحوّلاً كبيراً بين الماضي والمستقبل.
أثّث كروننبرغ فيلمه بمعطيات فكرية ومادية، توحي بأنّ أحداث فيلمه تقع في المستقبل، بشكل مُقنع، كالمفاهيم الفكرية والجمالية التي طرحها، وأسّس لها، وأعطاها أبعاداً، إضافةً إلى الآلات التي رأى أنّها ستكون في المستقبل، كسرير الألم، الذي يستشعر مكان الألم في جسد الإنسان من دون اللجوء إلى الطبيب، وهذا بات يحدث في الجراحات الطبية التي تجريها الآلة، والكرسي الذكي الذي يؤدّي دوراً طبّياً، ويتنبّأ بحركة الإنسان، وغيرها. وُظِّفت هذه الموجودات البصرية، وشُرح دورها بشكل مُقنع، وهذا سيتقبّله المتلقي، فجدواه مؤسّسةٌ بطريقة مُقنعة.
مُقدمة "جرائم المستقبل" تُثير صدمة في المتلقّي، بفضل مشهدٍ مثير ومرعب، تتمثّل بقتل الأم جوانا (ليهي كورنوسكي) ابنها خنقاً بالوسادة، بعد أنْ رأته يأكل سلّة بلاستيكية، ثم اتّصلت بوالده لانغ (سكوت سبيدمان) لأخذ الجثة. بعدها، ينتقل كروننبرغ إلى مَشاهد وفضاءات أخرى، ليتبيّن لاحقاً أنّ الطفل أول مولود في تنظيمٍ سرّي، يريد إعادة الجسد إلى شكله العادي، ويبحث عن فرصة مؤاتية ليظهر بشكل قوي، ويُعلن عن نفسه. لكنّ الأجهزة تبحث عنه وعن أفراده لإفشال خططهم. لهذا، أقنع قائدُهم الأبَ بتشريح جثّة ابنه أمام الملأ، ليرى العالم أنّ أعضاءه عادية، رغم أنّه يأكل البلاستيك. لكنّ أجهزة الدولة وصلت إلى جثة الطفل وشرّحتها، وزرعت فيها أعضاءً جديدة، فخاب أمل لانغ وأعضاء التنظيم. هذا كلّه من طريق سول، الذي استُعمِل بطريقة ما، قبل اقتناعه أخيراً بأهداف التنظيم السرّي.
انعكس ذكاء كروننبرغ في البناء المتين الذي اعتمده في فيلمه، بالسعي وراء فكرته تدريجياً، من دون إغراقه في متاهات علمية غير مُفسّرة، أو خطوط بناء غير متوازن، لأنّه يعرف جيّداً دور كلّ مشهد ولقطة في صُنع الشكل العام. لهذا، كانت هناك مفاجآت عدّة غير متوقّعة، ورويّة في تقديم الشخصيات، وإعطاء المعلومات بشكل متقطّع، لتتشكّل الصورة العامة في نهاية الفيلم.
رغم أنّ هذا البناء كلاسيكي، ضَمِن ديفيد كروننبرغ به نهاية معقولة ومقنعة. وانعكست سمات فيلمه ومؤشراته في شخصياته، إذْ أدّى ممثلون فيه أدوارهم بإقناع كبير، خاصة الفرنسية ليا سايدو، التي يسطع نجمها كلّ مرة، وخاصة في أفلامٍ تحمل هَمّاً فكرياً ورؤية جمالية؛ والأميركي الدنماركي، المختلف والهادئ، فيغو مورتنسن، الذي يعيش أدواره بشكل عميق، تلك الأدوار التي يختارها بعناية فائقة. أكثر من هذا، خرجت الأميركية كرستين ستيوارت (تِمْلين) من عباءة أدوارها المُكرّسة في سلسلة أفلام "الشفق" (بِلّا سوان)، مُعطية في "جرائم المستقبل" جُهداً كبيراً انعكس في شخصيّتها، محاولة إثبات أحقّيتها في أدوار عدّة.
بهذا، يكون الفيلم عملاً رزيناً، يُقدّم صورة جمالية وفكرية عمّا يُمكن أنْ يكون عليه إنسان المستقبل