يكتفي الفلسطيني كمال الجعفري بتوليف تسجيلاتٍ بصرية، يعثر عليها بعد وفاة والده عبد الجليل (2015)، مخبّأة في فناء المنزل العائلي في "الرملة". يؤكّد المخرج أنْ لا أحد غيره يُشاهدها، قبل إنجاز وثائقيّ جديد له، بعنوان "صيف غير عادي" (2020، 80 دقيقة)، المُشارك في الدورة الـ3 (18 ـ 26 يونيو/ حزيران 2021) لمهرجان "قابس سينما فنّ" في تونس. التسجيلات مُنجزة عام 2006، بهدفٍ واحد: العثور على من يُحطِّم زجاج سيارة عبد الجليل، أمام المنزل العائلي نفسه. كاميرا مُراقبة يضعها الأب على المبنى، ويُصوّبها باتّجاه موقف السيارات، المُقابل له. الأربعاء، 19 يوليو/ تموز، سيكون أكثر الأيام حضوراً في تلك التسجيلات.
العثور على الأشرطة منطلق مشروعٍ، ينتمي إلى نمطٍ مختلف في صناعة الفيلم الوثائقي. اكتفاء كمال الجعفري بالتوليف منبثقٌ من تقنية التجديد الوثائقي، المتداولة في بلدان غربيّة عدّة، بفضل سينمائيين متمكّنين من إنجاز روائع، في غرفة مونتاج. أشرطة قديمة، معروفة وغير معروفة، تتحوّل في تلك الغرفة إلى أفلامٍ وثائقية، تروي، بالصُوَر فقط، حدثاً أو مساراً أو حكاية، والمخرج صانع الوثائقيّ منطلقٌ من تفكيرٍ وقولٍ يريدهما واضحين أو مبطّنين في التوليف نفسه. لن تُفيد الأشرطة كلّها. حنكة السينمائيّ، وميله إلى تعبيرٍ عن مسألة أو انفعالٍ، كافيان لإنجاز وثائقيّ يتناول شخصية أو حدثاً، أو يروي حدثاً من خلال شخصيةٍ وسيرتها، أو فصلٍ من فصول سيرتها.
الأمثلة معروفة. أبرزها "جنازة رسمية" (2019) للأوكرانيّ سيرغي لوزنيتسا، و"دييغو مارادونا" (2019) للبريطاني آسيف كاباديا. في الأول، تسجيلات الأيام الأربعة الأولى، التالية لوفاة جوزف ستالين (5 مارس/ آذار 1953). يرتكز الثاني على حقبة "نابولي" في سيرة حياة لاعب كرة القدم الأرجنتيني مارادونا (1984 ـ 1992). حكايتان تكشفان أحوالاً وانفعالات وتفاصيل، بعرض توليفٍ سينمائيّ باهرٍ لأشرطة، تتضمّن كمّاً هائلاً من الصُور. اختيار بعضها وتوليفه يصنعان فيلمين يُعتبران الأهمّ في تجديد الفيلم الوثائقي، وفي إبراز ملامح ومشاعر وأخبار خاصة بمرحلتين تاريخيتين، من خلال شخصيتين مؤثّرتين في العالم.
كمال الجعفري متمكّن من إنجازٍ سينمائي، يرتقي إلى مرتبة الإبهار في سرد حكايةٍ من خلال تسجيلات صامتة، تسجيلُ بعضها رديء. يتعاون مع سايبوم كيم في توليفِ المُختار منها. التعليق الصوتي (دارين دبسي) يُكمِل المناخ المروي بالصُور، والمروي يبدأ من انتظار مديد لكشف محطّم زجاج السيارة، إلى هوامش تتحوّل سريعاً إلى جزءٍ أساسيّ من النواة الدرامية. يوميات أناسٍ يمرّون أمام الكاميرا، غير مُدركين وجودها غالباً. تفاصيل سلوكهم تُبرز مسائل عادية، لكنّها تقول أشياء عنهم وعن ملامحهم ونفوسهم: حركة المشي على القدمين، ركوب درّاجة هوائية، قيادة سيارة، لقاءات عابرة بين معارف وجيران، وصول تلامذة المدرسة، مرور عجائز، حضور أولاد الحيّ. التعليق الصوتي يُعرِّف بشخصياتٍ، ويُعبِّر عن حالةٍ وشعور، ويستعيد بعض ذاكرة وماضٍ. أغنيات لوردة ("آه لو قابلتك من زمان" و"حكايتي مع الزمان") وفايزة أحمد (أحبّه كثيراً) وعبد الحليم حافظ (حبيبي الغالي)، تُشارك في سبر أغوار عالمٍ مندثر، لكمال الجعفري معه علاقة ملتبسة، يبدو "صيف غير عادي" محاولة لتعريتها وتفكيكها وإعادة صوغها مجدّداً.