بثت شبكة "نتفليكس" أخيراً، سلسلة "كيف تصبح طاغية" الوثائقيّة، التي تستند إلى كتاب " دليل الدكتاتور". السلسلة التي تُلقى بصوت بيتر دينكليغ، المعروف بشخصية تايرون لانستر في مسلسل "لعبة العروش"، تفترض وجود كتاب يحوي الخدع والاستراتيجيات والممارسات التي يتبناها الطغاة من أجل الوصول للحكم، ثم ترسيخ حكمهم؛ إذ نشاهد هتلر، والقذافي، وصدام حسين، وعيدي أمين، وماو تسي تونغ، وسلالة سونغ في كوريا الشمالية. يعرّفنا المسلسل على الاستراتيجيات التي اختبرها كثير من قرّاء العربيّة، كيفية وصول الدكتاتور إلى السلطة، واغتيال الخصوم، ونشر الرعب، والتسلح بالنووي والكيميائي، والسعي إلى الحكم إلى الأبد عبر تغيير شكل المجتمع وتحطيم طبقاته. لكن ما يثير الاهتمام بداية، هو وجهة نظر المسلسل الأميركيّة؛ فالنموذج الأول والمثال الدكتاتوري يتمثل بالنازيّة الهتلرية، بوصفها الاستثناء التاريخي الذي تقارن عبره باقي الدكتاتوريات المعاصرة، فالنازيّة هي الأشد عداوة، وهذا ليس بالدقيق تاريخياً، خصوصاً أن ألمانيا النازيّة عدو أوروبا وأميركا، لكنها ليست عدوة الجميع أو كل أفراد الشعب.
هذا الاستثناء التاريخي النازيّ، يتجاهل في كثير من الأحيان الظروف وخصوصية كل بلد، والأهم، أنّ سقوط الدكتاتورية النازية كان إثر حرب عالميّة، أما الباقية، كصدام حسين، والقذافي، فكانت نتيجة تدخلات عسكريّة. وهنا، تهضم السلسلة حق الثورات العربيّة، ولا تشير أبداً إلى إمكانية نجاحها، فالطاغية إما يستمر في الحكم للأبد، هو وسلالته، كما في كوريا الشماليّة، أو يسقط بتدخل أجنبي.
المثير للاهتمام، أيضاً، أنّ المسلسل ينتهي بعبارة "أيّ أحد يمكن أن يصبح طاغية". وهنا إشارة ربما إلى جدل غير محسوم في النظرية السياسية، فالتيار الأول يرى أنّ الشرط الاستثنائي يخلق الطاغية، مثل خسارة الحرب العالمية الأولى في ألمانيا، والمجاعات في كوريا الشماليّة، أو العكس؛ الطاغية نفسه هو من يخلق الشرط الاستثنائي من أجل توطيد حكمه، كقتل اليهود في ألمانيا النازيّة، وتهجير الجالية الهندية في كوريا الشمالية. صحيح أنّ هناك كثيراً من العوامل المشتركة بين الطغاة، كالعمل مع جماعة مقربة يتصل بها بالدم، وتصفية كلّ الأعداء من دون رحمة، لكن يستثني المسلسل إرادة الشعوب كلياً، ولا يشير أبداً إلى الأداء الساخر المرتبط بالدكتاتوريات، فالطاعة التي تظهر علناً في المسيرات، أو في الحياة اليومية المحكومة بالخوف، لا تعني الإيمان بالدكتاتور، بل هي أداء ساخر ظاهري لا يصدقه من ينفذه بسبب الخوف والرعب؛ فقدرة الدكتاتور تحكم الأشكال الخارجيّة فقط، لا بواطن النفوس التي تشير إليها كلمة إيمان، وفئة قليلة جداً هي التي تؤمن حقيقة بالخلاص الذي يمثله الطاغية.
لا يتطرق المسلسل إلى الثورات العربية والطغاة المعاصرين، كبشار الأسد أو حسني مبارك، وكيفية الإطاحة بالثاني وحفاظ الأول على حكمه، وهذا ما يثير الحفيظة، كوننا أمام نماذج دكتاتورية تختلف عن الماضي، نماذج توظف استعراض الموت العلني مثلاً، ولا تستطيع في كل الوقت ضبط التحركات ضدها بسبب الإنترنت وما تأمنه من تواصل آمن في أغلب الأحيان.
الأهم، لا يتحدث المسلسل عن أشكال الطغيان الغربيّة، تلك التي استبدلت الأفراد بالمؤسسات وسلطة القانون، عبر تحويله إلى أداة عنصرية، كالحديث عن القوانين التي تستهدف اللاجئين والمهاجرين، ناهيك عن المؤسسات الطبية والسياسات الحيويّة وشبكات المراقبة التي تمارس طغياناً يشابه الأمثلة المذكورة، كونها تتحكم بالأفكار والمعتقدات، وتهدد في بعض الأحيان طبيعتنا كبشر.
وُجهت العديد من الانتقادات للمسلسل بوصفه لا يقدم ما هو جديد، وهذا ما نتفق معه، خصوصاً في ما يتعلق بالنظرية السياسية وأساليب الدكتاتورية، لكن، أيضاً، وُجهت له انتقادات تتعلق بالشكل المتبنى، وأسلوبه في تحويل تاريخ الدكتاتورية الدموي إلى شأن تعليمي مبسط، مليء بالرسوم المتحركة، يمكن نسيانه وتجاهله لاحقاً.
الأهم أنّ هذا الشكل ربما يُفقد الموضوع جديته ويتركه بعيداً عن المركز، المتمثل بأميركا: ألم يتبع ترامب مثلاً ذات خطوات الطغاة طوال فترة حكمه؟ أم أنّ الأمر لا ينطبق عليه؟