خلال احتلالهم الطويل للبرازيل، صنع المستعمرون البيض من أبناء الأمازون الأحرار أمّة جديدة من اللقطاء والعبيد. وفق تلك القراءة الخاصة للتاريخ، تكتب المخرجة البرازيلية فلافيا نيفيز (1982) نصّ فيلمها الروائي الطويل الأول، "مِشعَل" (2022)، جاعلة من فكرة غياب الأب تعبيراً عن حالة يُتمٍ عام، مُجسّدٍ درامياً في شخصية بطلتها فيرناندا (أداء تمثيلي رائع لبربارة كولين)، الباحثة عن أصولها في موطن مُلتَبس الهوية، يتداخل فيه الواقعي مع السحري، وتتماهى فيه الخطوط الفاصلة بين الجناة والضحايا، فيُصبح الكشف عنها مغامرة مجهولة العواقب.
رغبة المرأة العائدة إلى موطنها في السير عكس الاتجاه السائد تظهر من اللقطات الأولى، المُصوّرة لجموع تملأ الشوارع، حاملةً المشاعل في عتمة الليل، ومتنكرةً بلباسٍ كالذي يرتديه أعضاء المنظمة العنصرية "كو كلوكس كلان". بدت شوارع غويانيا البرازيلية، في اللقطات الواسعة المأخوذة من علوٍّ، مدينة مسيحية، يسير سكّانها في موكب "فارغيو" (المِشعَل)، مُبتهجين بشعائرهم الدينية. بينهم، تظهر امرأة سمراء تخترق الصفوف، وتسير بعناد في اتجاه معاكس لسير موكبهم. تلك الإشارة الواضحة إلى تفرّدها ومعاكستها للجموع، يليها غموض والتباس، يلازمان المدينة وناسها.
منذ مقدمها من فنزويلا إلى بيت خالها، عمدة المدينة (يوسين دي سوزا)، استجابةً لوصية والدتها بنثر رماد جثمانها في النهر، الذي أحبّت السباحة في مياهه، تتكشّف أمامها حقائق لم تكن تعرفها من قبل، تدفعها إلى مزيدٍ من البحث عن أصلها، وعن أسرارٍ أخرى تتعلّق بغموض علاقة والدتها بأهلها، قبل رحيلها إلى فنزويلا. كلّ مظاهر المدينة، وبيت خالها أنتونين، تشي بأنّ هناك شيئاً يحدث الآن، له علاقة بماضي المرأة، التي أخذتها معها طفلةً في رحلتها المجهولة إلى فنزويلا. ملامح فيرناندا وسمرتها تفصح عن اختلافٍ، يرجّح انتماءً إلى أصول هندية وأفريقية.
إيواء خالها خادمات، مُبتليات بإعاقات جسدية ونفسية، يتعارض مع سلوكه الفظّ مع الغير، ومع العاملين في مزارعه الخاصة، التي يسقي زرعها من مياه نهر، قطعها عن السكّان الأصليين. التقارب مع الخادمتين ميسي (نينا إينوي) وخوانا (فيلمينها شافيز)، وغموض وجودهما، يفتحان مجازات لطرح سؤال الهوية: من أين جاءتا، ولماذا تُقيمان في بيت الخال، من دون إحساس بانتماء إلى المكان؟
تبني فلافيا نيفيز على الأسئلة بقية سردٍ، مجبول بخيال لاتيني أصيل. من كشف العلائق المتشابكة بين ماضي النساء الحاضرات، كظلّ كائنات مُستلبة الإرادة، يغدو النصّ البصري مثل قصة شعبية، فيها تجد السينما مساحتها المشتهاة لقول أشياء عن الماضي بلغة الحاضر، وتُفكّك وقائع، وتعيد تركيبها خدمة لمسار حكاية مأسورة بفكرة اليُتم، التي تؤرق البرازيليين منذ أنْ وطأ البرتغاليون أرضهم، وصاروا لهم آباءً. ذلك ما يُنبئ به بوح ميسي، الهامس لفيرناندا: "لم تكن أمّك تلك المرأة التي أتيت بها رماداً". خوفها من الكلام يبعث على الريبة، واهتمامها بها يثير غرابة، كغرابة أنْ يكون خدم بيت خالها جميعهم من دون أهل، يشتغلون بالسُخرة مقابل عيش بائس، يتكرّم به عليهم العمدة، السياسي المنتمي إلى حزب يميني، ويريد ترشيح نفسه ثانية للمنصب.
السياق الدرامي مُتصاعد، ومُحاط بأسرارٍ تزيدها غموضاً مظاهر سحرية لاتينية، وتصرّفات شخصيات هامشية، غريبة المظهر، تبرز فجأة في طريقها، وتُلمّح إليها، بأنّها مثل والدتها منبوذة ومطرودة في أرضها.
الكتابة الذكية (سيناريو نيفيز مع ميلاني ديمانتاس) للأحداث، والحوارات المفضية دائماً إلى أسئلة شديدة الصلة بالإرث الاستعماري، تُحيل النصّ كلّه إلى مبحث في الحالة المعاصرة للبرازيل، الماضية في الطريق نفسها التي عبّدها البرتغاليون من قبل، ويسير أحفادهم "البيض" عليها اليوم. البحث في التواريخ الشخصية يقود الباحثة عن أصولها إلى حقائق مفزعة، تُجلي استغلالاً بشعاً، وقسوة لا حدّ لها. غطاء سرير ميسي طُرّزت عليه ـ بخيوط ملوّنة ـ رسوم بدائية، تحاكي ما عاشته ورأته في حياتها، ولم تبُحْ به لأحد، خوفاً من تشرّد. يؤشّر أحدها إلى مثلية والدة فيرناندا، وبسببها قرّرت العائلة نفيها إلى فنزويلا، خوفاً من الفضيحة، وحرصاً على مراضاة الكنيسة. أخذت معها رضيعة، مجهولة الأب، وأعلنت تبنّيها لها. الرسوم المُطرّزة تقول إنّها جاءت من اغتصاب الخال خادمته ميسي. حقيقة أنّ الخال هو الأبّ تهزّ كيان الشابّة، وتزعزع أركان بيت شُيِّد على أكاذيب وانتهاكات. كشفٌ يفضح أسرار مدينة، ظلّت تخفي ما تعرف، خوفاً من سطوة زعماء سياسيين، وأصحاب مزارع مقرّبين من الكنيسة المتنفِّذة.
النهاية، بعد الكشف، مُتوقّعة. تهرب الشابّة المُطارَدة من مدينة منفرة، ومن "أب" لا يتوانى عن قتلها، حفاظاً على سمعته كسياسيّ يخوض انتخابات قريبة. هروبها يُكرّس عجزاً عن تغيير واقعٍ، يُنقل إلى الشاشة باشتغالات سينمائية، مرجعيّتها "سينما نوفو"، الحركة التي ظهرت في ستينيات القرن المنصرم، وأخذت مساحتها المستحقّة من المشهد السينمائي العالمي، والتي أنجزت أفلاماً رائعة، يعرف صُنّاعها كيف يربطون تاريخ البرازيل بحاضره، مثل "مِشعَل"، الجميل الغارق في عوالم بلده، والباحث في خصوصيّته.