"موسيقاي تتبدّل في كل ساعة، كل يوم وفي كل ليلة. ما نحن، أي المبدعين، إلا أوانٍ إبداعية تستقي الإلهام مما حولها. لئن نضبط أرواحنا على نغمة ما يحيط بنا، فلعله يحالفنا الحظ ونأتي بما يُسهم في إثراء هذا العالم".
ذلك كلام كان قد أدلى به عازف بيانو الجاز والمؤلف الأميركي أحمد جمال (Ahmad Jamal) الذي رحل عن عالمنا في السادس عشر من الشهر الحالي. يضع فيه، ببساطة وفصاحة في آن، تصوراً عميقاً لمعنى وغاية الخلق الفني. كما يعكس تواضعاً حقيقياً يوازن بروز أنا الفنان، المتأتية عن نموّها وتبلورها، حتى التصلب مرات، في إطار الإبداع والابتكار.
تواضعه أمام مهمة الخلق الفني، وتوارٍيه خلف السيرورة الإبداعية كما لو أنها تمظهرٌ إنساني لنفخ قدسي، لن يمنعه من التمتع احتفاءً بمسيرته الفنية وتقدير أهل الفن وجمهوره لإنجازاته الموسيقية، هو الحائز، في عام 2017، واحدة من بين أعظم جوائز الغرامي أهمية، تلك التي تُمنح لحياة فنية بأكملها وهبها صاحبها من أجل الموسيقى، تحت عنوان Grammy Lifetime Achievement Award.
عن ذلك النفخ القدسي الذي ليس للمبدع الحقيقي سوى أن ينكشف إزاءه، واهباً أناه ناياً له، فيمرّ عبره إلى الإنسانية جمعاء، يتحدث جمال مخاطباً الموسيقي الطامح إلى الخلق: "يتوجب عليك أن تصلي. لا بد لك من أن تبقى في حال مخاطبة مستمرة مع الخالق عز وجلّ. إن لم يكن ثمة مرساة روحية لديك، أنت في مشكلة".
في صباه، كبر جمال على حقبة من موسيقى الجاز اعتمدت في أسلوب التقديم بغية الوصول إلى المستمعين على البراعة الأدائية والإبهار التقني، أي ما يُصطلح عليه "الفرتيوزية" (Virtuosity). تأسس ذلك المذهب الجازي منتصف خمسينيات القرن الماضي. إذّاك، سعى الجيل الثاني من العازفين والمؤلفين وقادة الفرق كـ بود باول Bud Powell (1924-1966) إلى نقل الجاز في الوعي الجمعي الأميركي من موسيقى حانات ومراقص إلى موسيقى قاعات ومسارح. فظهر ما يسمى جنس البي بوب Bbop.
أما جمال، فقد شرد عن السرب مفضلاً نهجاً آخر، أبعد عن المادية الاستعراضية وأقرب إلى الروحانية الجمالية. لأجل ذلك، وسّع من قاموس مفرداته الموسيقية لتشمل الإرث الموسيقي الكلاسيكي الغربي عموماً والأميركي خصوصاً، فدرس صياغة الجمل النغمية، من حيث البناء الهارموني المدروس والتشكيل اللحني ذي الغاية السردية، متقصَياً سبلَ تحميلها شعورياً، ضمن سياق الارتجال، لتؤثّر بالمستمع على مستويات عقلية وعاطفية على حد سواء. فلا تكون مجرد حذلقات سلمية وإيقاعية تثير لدى المتلقي حماسة آنية وإعجاباً قصير الأمد.
في ألبوم All of You الذي صدر سنة 1961، وسُجّلت مقطوعاته في نادي الحمراء للجاز (Alhambra)، أداره بنفسه بمدينة شيكاغو الأميركية، تظهر لدى جمال بوادر مينيمالية إنما تصب في مقاربته الروحية إزاء معنى الموسيقى وغايتها. التكرارية إحدى معالمها الأساسية. إذ يتخذ من موتيفات (Motifs) أي موضوعات تقليدية لموسيقى البلوز، صيغاً لحنية، ويُعيد تدويرها باستمرار ضمن مسار تسخين شعوري، لتستحيل ارتجالية البيانو التي تُسمع عند قمة الخط التصاعدي إلى نقطة تنفيس عاطفي بعد طول احتقان.
كأنما خير الأداء، بالنسبة إليه، ما قلّ ودلّ، أو ما يقال فيه بالإنكليزية less is more. علاوة عن التكرار، لعب عنصر الصمت في مينيمالية موسيقاه دوراً محوريا، وذلك بهدف توفير مساحات ما بين الكتل اللحنية والأشكال الإيقاعية أضفت على مقطوعاته وارتجالاته سمة الفراغية، ما وضعه في تعارض أسلوبي مع جاز من سبقه إبان حقبة الـ بي بوب، حين ظل كل من الإسهاب والوفرة يُميّز معظم الارتجالات في تأليفها وتتابعها.
من البديهي، إذن، أن جعلت مينيمالية أحمد جمال منه رائدًا يقود موسيقى الجاز نحو حقبة ما بعد البوب (Bop). سنة 1970، أصدر ألبوماً ذا روح جديدة بعنوان The Awakening، سجّله في مدينة نيويورك الأميركية. قد سخَر من خلاله خواص التكرار والصمت من أجل اختبار أجواء موسيقية جديدة والتداخل مع أجناس موسيقية وأساليب أدائية مجاورة وبعيدة، مستشرفاً ما سيتبلور خلال عقد الثمانينيات تحت مسمى جنس "الخليط" أو الفيوجن (Fusion).
في أولى مقطوعات الألبوم، والمسماة باسمه، يتخذ جمال صيغة لحنية مؤلفة من أربع نغمات تفصل بينها قفزات خماسية، تقرّبها من روح الموسيقى الأفريقية. سيجعل من تلك الصيغة موضوعة مينيمالية تتكرر تباعاً حتى الختام. إلا أن ثمة مداخلات أسلوبية تطرأ بين الحين والآخر، لتُبدّل من حال الصفاء المتولّد نتيجة التكرار الهادئ والمقتضب. تحمل المداخلات الداهمة معها أجواء نفسية طارئة وأجناساً موسيقية زائرة منها السول (Soul) ومنها البلوز، تدور جميعها ضمن فلك الجاز بوصفه إطاراّ موسيقياً جامعاً.
في مسيرة أحمد جمال الموسيقية، بحثٌ وتنقيبٌ متّصلٌ عن الجذور، ليس بمعناها الجغرافي والثقافي وحسب، إنما الروحي أيضاً، علّه يعيد إلى التعبير الموسيقي معناه الأول وغايته البدء، من حيث هو بالأصل فعل ابتهال ومناجاة لذاك المجهول والخفي في وجود الإنسان.
لئن نشأ الجاز في الولايات المتحدة الأميركية، وتكون في بيئة الحواضر الصناعية الكبرى فيها مثل شيكاغو ونيويورك، فقد انساق بصورة آلية مع واقع الحداثة المادية وانطوى تحت جناح الصناعة الموسيقية الوليدة أول القرن العشرين، ليصير صنفاً من صنوف الترفيه. أما جمال فكأني به وقد لمس في الجاز بعداً أعمق وجوهراً أصفى، يعود إلى القارة الإفريقية، مهد الإنسانية، حيث الأديان القديمة والعبادات الموغلة في التاريخ.