أحمد فوزي صالح (2/ 3): هذه حيرتي وفقداني الثقة وألمي

04 أكتوبر 2024
أحمد فوزي صالح (وسط الصورة) في نقاشٍ إنتاجيّ في الدوحة عام 2016 (إيان غافان/Getty)
+ الخط -

يجمع المخرج المصري أحمد فوزي صالح بين الإخراج والتأليف، ويكتب لآخرين. شارك في إنتاج "أم غايب" (2014) لنادين صليب. قدّم مشروعه الأول "جلد حي" عام 2010، الذي أشاد النقّاد به، ثم طوّره إلى "ورد مسموم" (2018). يعمل على مشاريع سينمائية وتلفزيونية، وثائقية وروائية. مع ذلك، يصف نفسه بالكسول.

في الحلقة الثانية من حوار "العربي الجديد" معه، تابع المخرج المصري أحمد فوزي صالح قراءاته المختلفة لعلاقته بنفسه وبالسينما، وبالناس والعائلة.

  • هذا مؤكّد: الجانب الأخلاقي عند صانع أي فيلم.

أخلاقي عندي، لأنّهم يقولون تلك الأشياء أمام الكاميرا لا خلفها. بعيداً عن هذا، عندما أصنع أفلاماً وأنال جوائز وأجني أموالاً، ثم أواصل حياتي في حيّ بورجوازي: هذا جزء من الألم يخصّني أنا، وليس جزءاً من الفيلم.. هذه معضلة خيري بشارة.

  • ما مشكلة خيري بشارة؟

المعضلة نفسها. عندي طفل، عندما أعود إليه أشتري له أشياء كلّها "ماركات". يعيش حياة لا يعيشها من أريد أنْ أحكي عنهم، وهم فقراء. هذا ألمي. لكنْ، في الوقت نفسه، لا أستطيع صنع فيلمٍ إلاّ عن هؤلاء الناس.

  • هل تشعر أنّك شخصية مزدوجة ومتناقضة؟

دائماً. هذه حقيقة. أنا أمامك شخصٌ مزدوج.

  • يمكنك التصالح مع نفسك.

ليس بهذه السهولة. ما الذي يجعلني أُنتج فنّا يُشبه هذه الأزمات. هناك أناس يعانون أزمات في العلاقات الجنسية، أو مع الأب أو الأم. إذا كنّا نتحدّث عن تعريف كلمة المخرج، فإنّه إنسان له وجهة نظر في العالم، أو لديه ألم خاص يُريد أنْ يشارك الناس فيه. لذا، أرى أنّ في الحوارات الصحافية جزءاً مهماً يقوم بالتقطيع في نفسي.

  • تريد صُنع صورة عن نفسك كضحية؟

لا، أبداً.

  • أنت تُبرّر (يُقاطعني بحدّة)

لا أبرّر ولا أحاول الدفاع.

  • لأنّك ترتدي ملابس "ماركات" عالمية، وتدّعي أنّك منحاز إلى الفقراء والبسطاء. وبدلاً من أنْ ينتقدك الناس لأنّك تصنع أفلاماً عنهم، تُبرّر قائلاً: "هذا جزءٌ من الصراع فيّ"

قلتُ لك: أنا لا أبرّر.

  • شخصياً، إذا لمست صراعاً فيّ، أبحث عن مصدره وكيفية التغلّب عليه. أتمنى هذا. أنت لا تريد

لا، أنا أتمنّى. مَنْ قال إنّي لا أريد؟

  • لأنّك تستفيد منه. لو كنتَ تريد التخلّص منه، كنتَ بدأت في ذلك.

قبل فترة قصيرة، كنت أقول لأصدقائي أنّي قرّرت اعتزال السينما في سنّ الخمسين.

  • هذا ليس حلاًّ. الناس الذين تراهم (يُقاطعني).

أنا قادمٌ من خلفية ماركسية. هناك كثيرون غيري في الدنيا. لست الوحيد. أعتقد أنّ هذا كان ألمهم. لا أبرّر ولا أدافع عن نفسي.

  • ماذا كان ألمهم؟ هل عاش جميع الماركسيين هذا التناقض؟

فيسكونتي. بازوليني. كثيرون غيرهما.

  • عملت على سيناريو روائي جديد اختير في مهرجان "كانّ". هل أعاد هذا إليك الثقة في نفسك؟

بالفعل عندي ثقة في نفسي.

  • أنت تركيبة عجيبة.

لماذا؟

  • قبل قليل، قلتَ إنّ الشك يساورك بين حين وآخر، وإنّك تفقد معنى أو قيمة ما تقوم به. والآن تؤكّد أنّ لك ثقة في نفسك.

لمحمود درويش جملة عظيمة: "لا حلول فردية لهموم جماعية". أتكلّم عن فنان يُنتج أعمالاً فنية في سياق. لو أصوّر ابنة سحر، التي لديها مشكلة في عدم قدرتها على الالتحاق بمعهد السينما، وأنا ساعدتها على تذليل تلك العقبة، فأنا أوجدت حلاًّ لمشكلة فردية. لم أحلّ مشاكل الشابات الأخريات.

  • طبعاً لم أقصد هذا. فالمهمّ أنْ تعطي نموذجاً للآخرين بتقديم حلول خارج الصندوق. مع ذلك، أندريه تاركوفسكي يقول: "لو أنّك ملأت يومياً كوب ماء ثم سكبته في الحوض، فأنت بذلك تغيّر جزءاً في الكون". هذه وجهة نظر. أنت تعلم أنّ أفلام تاركوفسكي نادرة. له سبعة أفلام. كان يُعاني بسبب النظام الحاكم في بلده. لم يُخرج أفلامه بسهولة، بسبب تضييق الخناق عليه. أعود إلى مشروع سيناريو لك في مهرجان "كانّ": هل منحك الثقة؟

إنّها حيرتي نفسها، وفقدان الثقة نفسه. هذا ألمي.

  • كيف وُلِد مشروع "هاملت من العشوائيات"؟

كل أفكارنا نتاج طفولتنا. في طفولتي علاقة غريبة بالأب، لأنّه توفّي وأنا أبلغ 16 عاماً.

  • حادثٌ، أم موت طبيعي؟

موت طبيعي. لكنّي أعتقد أنّه مات قبل بلوغي 16 عاماً، أي قبل الفترة التي يقول عنها فرويد "قتل الأب معنوياً"، فأصبح لديّ علاقة معقّدة مع أب، هو في الحقيقة مات.

الأمر الثاني: أكثر شخصين ألهماني صُنع سينما هما خيري بشارة ويوسف شاهين. واضحٌ جداً في "حكاية شادية وأختها سحر" كلّ التحيات التي أقدّمها لبشارة. هاملت ومعضلاته. نحن أولاد طبقات فقيرة مرتبكين في تفكيرهم كهاملت، بين كونه صوفياً واعتقاده أنّ والده ربما قتل أمّه. أقدّم هاملت بشكل عكسي، ففي فيلمي لا يبحث عن قاتل أبيه. عندي معركة مع السلطة الأبوية و"الهيراركية".

  • تقول إنّ والدك توفّي ولك 16 عاماً. هل علاقتك به كانت سيئة؟

كلا.

  • لماذا تعتقد أنّه مات قبل أنْ تقتله أنت؟

أقتله معنوياً.

  • أفهم ذلك. لكنّ السؤال: لماذا تقتله معنوياً؟ هذا يعني أنّ هناك مشكلة بينكما، أو أنّ الأمور غير سوية؟

عند فرويد، المسألة واضحة. ليس مهمّاً أنْ تكون هناك مشكلة كي أقتل الأب. الإنسان وهو يكبر، أوّل ما يُفكّر به ويريد تحطيمه، سلطة الأب.

  • أكان والدك يفرض سلطته عليكم؟

لم تكن هناك سلطة. مات قبل أنْ أبدأ تنفيذ الفكرة.

  • عندما توفي، كنت تبلغ 16 عاماً. هذا يعني أنّ هناك على الأقلّ عشرة أعوام من الاحتكاك بينكما. لماذا تُعطي انطباعاً بأنّ الوعي عندك وُلد وأنت تبلغ 16 عاماً؟ أين كنت من علاقتك به في تلك الأعوام؟

كنت موجوداً، لكنّي لا أدرك أنّي تشاجرت أو اختلفت معه.

  • تعيش 16 عاماً وأنت لا تُدرك أنّك في علاقة مرتبكة مع الأب؟ الأطفال في السادسة والسابعة، وأحياناً قبل ذلك، يُدركون ويعون هذا كلّه.

(صمتٌ طويل): أجيب مما بداخلي. أنقّب في حياتي أنا.

  • أنا أيضاً أتساءل عما حدث في حياتك، بينك وبينه، يجعلك تفكّر في قتله معنوياً.

بعد وفاته، خلقت آباءً وهميين كي أقتلهم (يضحك ضحكة قصيرة مقطوعة، فيها سخرية).

  • ألا تعتبر نفسك جزءاً من هذه السلطة الذكورية التي تتحدّث عنها؟

طبعاً أعتبر نفسي جزءاً منها.

  • وهل حاولت إصلاح نفسك؟

ماذا؟ أحاول إصلاح نفسي؟

  • تتحدّث بأفكار مشاكسة، وأحياناً متناقضة. تُوحي أنّك تعيش دور الأسطورة، أو كما تصف نفسك بالأسطورة. فلا بُدّ من طرح أسئلة مشاكسة

لا أعيش دور الأسطورة، ولا شيء. هذه "إيفّيه" من قبيل السخرية مع الأصدقاء. كلّ ما أقوله لا يعني أنّي أبحث عن تبرير، كما أنّي لا أدافع عن نفسي. أنا لم أرتكب جريمة. أنا صانع أفلام.

  • ليس بالضرورة. يمكن للجريمة أنْ تكون معنوية

مثلاً: "حكاية شادية وأختها سحر" لم يُصنع من وجهة نظر رجل، أو من وجهة نظر ذكورية. أليس كذلك برأيك؟

لن أقول إنّه من وجهة نظر ذكورية. أراه لا ينحاز إلى النساء، بل يجعلني ضدّهنّ. عموماً، لي تحفّظات عليه، أذكرها لاحقاً. الآن أتساءل عن سبب الانتقال إلى التلفزيون، بعد أنّ قدّمت سينما روائية تتميّز بلغة خاصة.
في التلفزيون أعمل كما في السينما، وأهتمّ بالصورة. كيف ولدت الفكرة؟

كنتُ في جلسة نقاش في "مهرجان فينيسيا" عن أنّنا نصنع فيلماً كلّ سبعة أعوام، فكيف يُمكننا أنْ نعيش، وكيف نستمرّ ونواصل العطاء. كان يشارك فيها مخرج فيلبّيني، قال إنّ المخرجين جميعهم في بلده يصنعون مسلسلات تلفزيونية. 

  • من هو؟

للأسف لا أتذكّر اسمه. لكنّي حينها بحثت عن الموضوع، واكتشفت أنّ هناك صناعة تلفزيونية ضخمة كما عندنا، وأنّهم يصنعون مسلسلاً واثنين وثلاثة في العام. قال أيضاً: لا عائد مادياً منه فقط، لكنّه يُعدّ تجربة وتمارين تمنح خبرة بطريقة أو بأخرى. لذا، كتبتُ للتلفزيون "بطن الحوت"، وأخرجته. أعمال أخرى أخلق فكرتها، وأختار الممثلين والمخرج، وأتدخّل في كافة تفاصيل صنعها. كلّها تنتمي إلى عالمي. هناك أعمال كثيرة لم تخرج. المشكلة أنّ ما أكتبه لا يحبّه مخرجون كثيرون، أو لا يعرفون تناوله، إذْ يكتفي أنّ يكون من الخارج، وسطحياً.

  • وفيلم "الإستاد (استاد الكرة)"، ماذا عنه (واقعة حقيقية مشهورة في مصر، راح ضحيتها كثيرون ـ المحرّرة)؟

متوقّف.

المساهمون