هناك أسماء أفريقية كثيرة مُكرّسة في الإخراج السينمائي، محلياً وعالمياً، منذ منتصف القرن الماضي تقريباً، أبرزها الرائدَين الراحلين عثمان سامبين (السنغال) وإدريسا أوادْرَأغو (بوركينا فاسو). بينهم من لا يزال يمارس المهنة، كسليمان سيسيه (مالي) وهايلي جريما (أثيوبيا) وعبد الرحمن سيساكو (موريتانيا) ومحمد صالح هارون (تشاد).
المثير للانتباه أنّ هؤلاء شقَّوا طريقهم بإمكانيات مادية وفنية تكاد تكون معدومة. في بلدانهم، لم يكن هناك ما يمكن اعتباره صناعة سينمائية، ولا صالات سينمائية، بالمعنى المتعارف عليه، ولا وسائل اتصال وتواصل، ولا الحصول على تمويل وتدريب، أو توفير أحدث الأدوات التقنية اللازمة. الآن، على عكس السابق، تنعم الأجيال الجديدة من مخرجي القارة بما لم يحظَ به أسلافهم من إمكانيات وتقنيات حديثة وتمويل ومنح تعليم وتدريب، وحريات. بالإضافة إلى انتشار صالات السينما ومراكز الثقافة السينمائية، واتساع نسبة المُشاهدة، وغزارة الإنتاج السينمائي، مقارنة بالماضي.
يكفي أنّ بلداً كنيجيريا بات، منذ عام 2013، يُطلق عليه "نوليوود"، نظراً إلى إنتاجاته السينمائية التي جعلته في المرتبة الثانية كأكبر صناعة سينمائية في العالم بعد "بوليوود" الهندية، مُتجاوزاً بذلك الولايات المتحدة الأميركية. تشمل صناعة الأفلام النيجيرية تلك المُنتجة في القارة الأفريقية، والإنتاجات الفرعية والمُشتركة مع أفلامٍ نيجيرية في الخارج، مُشكِّلةً نحو 5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلد، بقيمة بلغت 5.1 مليارات دولار أميركي عامي 2013 و2014، مع عائدات وصلت إلى 11 مليار دولار أميركي. كما اكتسبت السينما النيجيرية مُشاهدين في دول كثيرة، بفضل صفقات التوزيع في العالم، والاشتراك في خدمات البثّ الغربية. الآن، تُصدَّر الأفلام النيجيرية إلى دول عدة، منها فرنسا والصين. في نيجيريا حالياً أكثر من 700 استديو، تنتج سنوياً أكثر من 3000 فيلم، أي نحو 24 فيلماً في الأسبوع.
أزمات مهنية متشابهة
الغريب أنّ غالبية هذه الأفلام، كغالبية إنتاجات القارة، لم تبرز عالمياً بالشكل المأمول به، ولم تشارك في مهرجانات دولية كبرى، ولم تتنافس فنياً مع أفلامٍ أخرى، لأنّها ببساطة لا تتوفّر كثيراً على معايير الإنتاج الاحترافي. حتى اللحظة، معظم الإنتاجات نسخٌ من "بوليوود" تُصوّر في مواقع التصوير من دون نصوص أو إعداد جيد، وتتّسم بالميلودرامية والمُباشرة والرومانسية الساذجة، والكوميديا المفتعلة، إلى أوجه ضعف ملحوظة. أيضاً، لا توجد صناعة وثائقية احترافية ملموسة، ولا أفلام رسوم متحرّكة. أما الأفلام القصيرة، بأنواعها، فلا بأس بها، إتقاناً واحترافية وفنّيات، مقارنة بالروائية والوثائقية.
الإنتاجات المستقلّة، رغم قلّتها، مُكرّسة للأفلام الاجتماعية والسياسية الجادّة والرصينة، التي تعتمد على قصص أكثر منطقية واحترافية في الكتابة، وعلى أدواتٍ تقنية متطوّرة وباهظة الثمن، وفرق عمل محترفة. إنّها، غالباً، أفلام وثائقية أكثر منها روائية، وإنْ كانت تعاني مشكلاتٍ، كنقص التمويل والدعم والتسويق وقلّة الاستديوهات ومعدّات الإنتاج. والأهم، نقص الخبرة. هذا المسائل نفسها تحضر في معظم بلدان القارة، إذ تُعاني الأفلام المصنوعة في كينيا وغانا والكاميرون المآزق نفسها.
رغم الجهود المبذولة، مؤخّراً، للنهوض بالسينما الأفريقية وتطويرها، لا يزال ضعف انتشارها لغزاً عصيّاً على التفسير، كلغز السينما الهندية تماماً. إذْ بالكاد توجد السينما الأفريقية دولياً، في المهرجانات الكبرى، أو الترشّح لجوائز، أو الاندماج مع إنتاجات عالمية. هذا ينطبق تماماً على أفلام السينما الهندية. لكنْ، في حين أنّ للسينما الهندية انتشاراً تجارياً خارج حدود بلدها، وتحظى أحياناً بقدر من الإقبال والمُشاهدة عالمياً، لا تنتشر السينما الأفريقية تجارياً بالقدر المماثل، حتّى في القارة الأفريقية نفسها، رغم ترجمة الأفلام إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية، أو وضع عناوين للأفلام الناطقة أو المتضمّنة هاتين اللغتين، للتغلّب على صعوبات النطق، أو تباين اللكنات.
من الأفلام الأفريقية الحديثة، المُتّسمة بقدر من الاحترافية وجودة الصناعة، والمعروضة مُؤخّراً في مهرجانات دولية مختلفة، هناك "نحن الطلاّب"، و"سائقو الدرّاجات البخارية"، و"المأوى الأخير"، و"ليلة الملوك"، وكلّها لمخرجين شباب.
"نحن الطلاّب" أول وثائقي لرفيكي فاريالا (1997، كونغو)، يتناول وضع الطلاّب في كلّية الاقتصاد في جامعة "بانغي"، في جمهورية أفريقيا الوسطى، مُركّزاً على الفساد، وتغيّر الأجيال، وبروز أصوات جديدة تحاول التمرّد على الواقع، أو الحلم بمستقبل مُغاير، على الأقلّ. يبدأ الفيلم بالمخرج نفسه مُواجهاً الكاميرا في لقطة مُقرّبة، ومُغنّياً أغنية عن استحالة تغيير الهياكل القديمة، وحرمان الشباب من حقوقهم.
هدف فاريالا، في البداية، سردُ قصّة عن الفساد المتأصّل في النظام السياسي، وفي الجامعة، مُبيّناً عدم كفاءة الأساتذة، وتحرّشهم الجنسي بالفتيات. وأيضاً، إظهار الظروف المعيشية المُزرية في الحرم الجامعي، وكيف يعيش الطلاّب، ويسكنون ويدرسون فيه. رغم تناوله هذه المواضيع كخيوط أساسية، ظهرت قصّة فرعية بشكلٍ محوري، وهيمنت على الفيلم قبيل نهايته: صداقة فاريالا و3 زملاء دراسة، هم: آرون ونستور وبنيامين.
مآزق فردية متنوّعة
هؤلاء يعبّرون عن استيائهم مما يخبّئه المستقبل، مقابل طموحهم الشخصي غير المحدود. يرون في الواقع انسداد أفق، وبلدهم لا يهتمّ بهم. لا مكان لهم في قيادته. لذا، إلى جانب دراستهم، يجهدون للحصول على المال، بممارستهم مهناً بسيطة، كالتجارة والفلاحة وحراسة المباني.
الجنس نقطة رئيسية أخرى: الشخصيات وصديقاتهم يناقشون علاقات الحبّ والإجهاض. يُتّهم آرون بالاغتصاب من عمّة صديقته، التي تدحض لاحقاً التهمة في مركز الشرطة. ينتهي الأمر بالاثنين إلى تربية ابنتين توأمين، رغم مطالبة أسرتها بتعويض عن الاغتصاب، يتمثّل بماعز و6 دجاجات، للتضحية بها.
من بين الأصدقاء الـ3، يركّز فاريالا على نستور، أكثر الطلاّب فضولاً وانفتاحاً، ومشاركةً في مناقشات حيوية مع الأساتذة عن النمو والوضع الاقتصادي ونقص الفرص للشباب، كما عن الرأسمالية والشيوعية. لكنّ المفاجأة صادمة، إذ يفشل نستور في الاختبارات النهائية التي يخضع لها مع صديقيه. مُتأثراً بهذا، يسأل نستور نفسه عن الصداقة، ودوافع أصدقائه. في مشهد قبيل النهاية، يواجهُ المخرجَ بشبه اتّهام باستغلاله كشخصية في الفيلم، لا كصديق. أمر يتفاقم بحقيقة أنّ صديقيه تخرّجا فعلاً، وعليه أن يبقى في الجامعة. ما يدفع المخرج إلى القول: "نحن أصدقاء، ولكن، لنكن صادقين، لن نكون معاً دائماً".
الشكوى تسمح لفاريالا بتحويل التركيز من السياسة إلى شيء أكثر حميمية، ما أدّى إلى تغيير نهج الفيلم كثيراً، وإثارة ارتباكٍ وتشوّش في الرؤية العامة له. تغيّر العلاقات وتطوّر حياة الأصدقاء بعد التخرّج، كان يُمكنهما صنع وثائقيّ أكثر تماسكاً وقوّة.
في روائيّه الأول "سائقو الدراجات البخارية"، يتنقّل نرسيس وانداجي (1992، الكاميرون) بين قصص ثلاث بالتوازي، باعتبار كلّ قصّة منها منفصلة تماماً عن القصّتين الأخريين. الرابط الوحيد بينها كامنٌ في أنّ أبطالها يعملون سائقي دراجات أجرة بخارية لإيصال الزبائن إلى هنا وهناك. هذا معروف بخدمة الدراجة البخارية التاكسي المُنتشرة بكثرة في أفريقيا.
يروي الفيلم بعض حياة هؤلاء، المليئة بالدراما والمآسي والخداع. عبرها، يُلقي وانداجي نظرة ثاقبة على مجتمعه، وعلى أفريقيا المعاصرة. يومياً، يشقّ ساني وماري وفرانك طرقهم في مسارات مليئة بالحصى والغبار، عبر فوضى المرور وعشوائيات العاصمة الكبيرة. يقع ساني (دانيلو ميلادني) في مشكلة كبيرة مع صديقته، الطالبة الثانوية المُراهقة ساميدي (ستيلا تشويس)، التي تحمل منه فجأة. الكارثة مزدوجة، فالأحوال الاقتصادية صعبة للغاية، لا تعينهما على تربية طفل. وقبل ذلك، هناك مواجهة والد الفتاة، تشارلز (ياكوبين يارو)، الضابط المتوحّش والمُستبدّ، الذي لن يتورّع عن قتل ساني.
تبحث ماري (ميرفيل أكامبا)، من دون كلل، عن توم (هنري إبي)، الذي اغتصبها ذات ليلة بعد حادث سير تعرّضت له، قبل أعوامٍ بعيدة، فأنجبت منه فتاة، يشقّ عليها تربيتها بمفردها، بعد أن لفظها أهلها وأقاربها. هذا ولَّدَ فيها دوافع هائلة للبحث عنه، والانتقام منه.
يحاول فرانك (كريستيان أليجوينا)، الذي ينشل الحقائب وهو راكبٌ دراجته، التخلّص من حقيبة، فيها "محتويات صادمة"، سرقها ذات مساء: جثة طفل (8 أشهر). لاحقاّ، يجهد، ليس للتخلّص من الجثة فقط، بل من صديقته وحبيبته أليكا (ميشيل موبج) أيضاً، بعد اكتشافه صلة وثيقة بينها وبين الطفل.
رغم تناوله مواضيع شائكة كالاغتصاب والحمل والخداع، يحضر القتل والتهديد في السرد. لكنْ، يبقى السائد استناد الفيلم إلى المفارقة، ويُقارب الكوميديا السوداء، ما أسفر عن مُنتَجٍ قادر على مزج الدراما بالفكاهة. مع هذا، الفيلم غير مُقنع، لا فنياً ولا تقنياً، رغم الجهد المبذول، وطرافة الحوار وسخونته وجرأته، إذ تبدو بعض الصُدف مُفتَعلة بسذاجة، ما يُقوّض قليلاً من مصداقية القصص والسرد.
خارج المألوف
يُعتبر "المأوى الأخير"، لعثمان زوموري ساماسكو (1988، مالي)، من أهمّ الأفلام الوثائقية المُنجزة مؤخّراً موضوعاً ومعالجة وجهداً فنياً، رغم أنّه أول وثائقي لمخرجه. يبدأ بمقبرة مرتجلة على حافة مدينة غاو في مالي، جنوب غرب الصحراء. هناك، سكن المدفونون في بيت المهاجرين، الذي يستضيف أمثالهم منذ عقود، وهم في طريقهم إلى الجزائر، على أمل الذهاب إلى أوروبا؛ أو أولئك الذين عادوا، بعد محاولة فاشلة في إيجاد مكانٍ لهم في الجنّة الخيالية للغرب.
يُركّز الفيلم على المُراهقتين إستر وكادي، من بوركينا فاسو، الهاربتين من قسوة حياة وعائلة وبلد. يشرح مدير المنزل المخاطر المحدقة، راوياً تجارب شابات أخريات انتهى بهنّ الأمر ببيعهنّ الجنس في الجزائر، أو ما هو أسوأ من ذلك.
مَشاهد عدّة قوّية، يبرز بينها مشهدٌ يُعتبر لحظة عاطفية وإنسانية فاصلة، تصل إلى عمق محنة المهاجرين، وفرصهم الضئيلة في النجاح، فعبور الصحراء والوصول إلى شمال الجزائر ليسا سهلين أبداً. يقع كثيرون فريسة احتيال المُهرّبين، أو يتعرّضون للسرقة أو الاغتصاب أو القتل على أيدي جماعات مُسلّحة وقطاع طرق، أو تنظيم القاعدة. في حالة النجاة والتمكّن من ركوب قارب إلى أوروبا، هناك تحدّي الغرق، أو الانتهاء في سجن أوروبي، أو ـ في أحسن الأحوال ـ الإقصاء والتمييز، والقيام بأحقر الأعمال، في جنّتهم المتخيلة.
أما "ليلة الملوك"، لفيليب لاكوت (1969، ساحل العاج)، فأهمّ فيلم روائي أفريقي برز عالمياً قبل فترة، وحصل على أكثر من جائزة، ووصل إلى القائمة الـ15، قبل النهائية، لترشيحات "أوسكار" الـ93، عام 2021. مستواه الفني رفيع، والإخراج مُحكم، والتمثيل محترف، والسرد فنيّ. وقبل كلّ شيء، الموضوع جدّي، فرغم انتمائه إلى أفلام السجون، وما يجري فيها من مشاكل وصراعات وعنف، استطاع لاكوت ببراعة تقديم الجديد في هذا الموضوع، ما أبعد الفيلم كثيراً عن المألوف والمعتاد.
تدور أحداثه في سجن "ماكا" سيئ السمعة، في أبيدجان. "السجن الوحيد في العالم الذي يديره أحد السجناء" كما يقول كبير الضباط ورئيس السجن، قاصداً شخصية يُطلق عليها "اللحية السوداء" (ستيف تينتشو). مع اللحظات الأولى، يتمّ التعرّف على الوافد الجديد، الشاب رومان (بكاري كونيه)، من "فرقة زاما كينغ"، زعيم عصابة الـ"ميكروبات" المشهورة، وسيئة السمعة أيضاً.
تتدهور صحة اللحية السوداء، فيرضخ سريعاً لمطلب التنحّي عن القيادة. قبل ذلك، لديه خطة لطقوس أخيرة، يجب أن يؤدّيها رومان. فمع ظهور القمر الأحمر، يُكلِّف اللحية السوداء رومان بسرد حكاية مُسلية لزملائه السجناء. اختيار يرقى إلى عقوبة الإعدام، فسيُقتل رومان عند انتهاء قصّته، في نوع ذكوري حديث من حكايات شهرزاد التراثية. يبذل رومان كلّ ما في وسعه لترفيه جمهوره، والاعتماد كلّياً على براعته في السرد، وإطالته قدر المستطاع، عملاً بنصيحة النزيل الأبيض الوحيد، شبه المجنون، سايلنس (دينيس لافانت).
في هذا الروائيّ الثالث للاكوت، بعد أفلام قصيرة وووثائقية عدّة، مزج غريب ومدهش بين دراما السجون القاسية ورموز سياسية واجتماعية وتاريخية ومُعاصرة، إذ تصطدم عوالم ما قبل الاستعمار بما بعده بشكل واضح. هناك أداء مسرحي وتمثيلي صامت، ورقص إيمائي مُغلّف بأجواء الأسطورة والخرافة والتراث. خليطٌ حكائي، مُتّسق وصادق، من الإبداع والابتكار والدهشة.