يتحرّك جاد ابني برشاقة على أرضية الملعب. يمزح معه مدرّبه الإنكليزي، ويناديه "ميسي الصغير". يبتسم جاد، يبتسم رفاقه، أبتسم أنا، ويبتسم الكوكب ربما، أو هكذا يخيل إليّ.
طيلة طفولتي شكلت كرة القدم جزءاً أساسياً من حياتي: أبي وأخي وأمي يشجعون منتخب ألمانيا. يرتفع العلم على شرفتنا طيلة كأس العالم وبطولة أوروبا. علم خاطته جدتي يغطي المبنى الذي نسكنه كاملاً، من دون أي اعتبار لجيراننا الذين يشجعون منتخب البرازيل.
لكن على سبيل التمرد الذي يلوح في بدايات سنوات المراهقة، هجرت حبي للمانشافت، واخترت تشجيع إيطاليا، ثم تنقلت عشوائياً من تشجيع منتخب إلى آخر: إيطاليا، إنكلترا، إسبانيا، الأرجنتين... إلى أن قررت أخيراً ببساطة وتلقائية أي أم عادية أن أشجع المنتخب الذي يشجعه ابني: فرنسا. وها أنا ذا أطبع صور كيليان مبابي، وكريم بنزيما، وألصقها في مكتبي.
على أي حال، في عامي الـ37، اكتشفت أن كل ما في كرة القدم يبهرني باستثناء اللعبة نفسها: لا الفنيات الخارقة، ولا الركلات السحرية، ولا مشهد اللاعبين وهم يركضون خلف الكرة، ولا الأدرينالين الذي يرتفع وترتفع معه الشتائم والصراخ أثناء مشاهدة زوجي وابني للمباريات. لكن تأخذني كل التفاصيل الأخرى إلى عوالم قد أقضي فيها ساعات: الاقتصاد الضخم المرتبط بهذه الرياضة، والعنف بين الجماهير، والعنصرية التي تقضي على مسيرة لاعبين، والهوية الجماعية التي تجمع المشجعين، والشعور المريب بالوطنيات والقوميات على مدرجات الملاعب، ومشهد اللاعبين وهم ينشدون أناشيد بلادهم الوطنية، والمراهنات، والعنف الجنسي، والحياة الشخصية للاعبين، والصراعات السياسية بين الدول، والشعارات والهتافات والأعلام التي يرفعها الجمهور.
كل تفصيلة خارج الملعب الأخضر تسحرني. أما ما يحصل داخله، في المساحة الممتدة بين مرمَيين، خلفية لكل الأحداث الأخرى. أقول لنفسي إنه السنّ ربما الذي جعلني مملة بهذا الشكل، أو الغوص في التفاصيل الذي يفسد أي متعة في الحياة. لكن ما هي كرة القدم فعلياً من دون كل هذه التفاصيل؟ مجرد عشرين رجلاً يركضون خلف كرة، على وقع صراخ هستيري على المدرجات؟
أعود إلى جاد. في عامه الخامس بدا واضحاً أنه يحب كرة القدم. حبه هذا تحول إلى هوس. أجلس بقربه أثناء مشاهدة المباريات محاولةً تصويب هذا الهوس في اتجاه أراه صائباً. أشرح له تفاصيل لا تهمه ربما، عن العنصرية التي يواجهها اللاعبون السود في الدوريات الأوروبية، عن أهمية محمد صلاح ورياض محرز في وعينا العربي وعلاقتنا بهذه اللعبة، عن الجماهير التي ترفع أعلام فلسطين في هذا المدرج أو ذاك... يستمع، ويسأل. ازدادت أسئلته في السنوات اللاحقة، ولم ينقص حبه للعبة. بات يعرف سيرة لاعبين كبار، وحوادث كثيرة شهدتها اللعبة. يقرأ، ويشاهد، ويسأل مجدداً. يسأل كأن بينه وبين اللعبة حميمية لا نفهمها، أو لا نقدّرها.
اليوم في حياتنا الجديدة التي اخترناها لعائلتنا في الدوحة، تشكل كرة القدم جزءاً أساسياً من حياته، من حياتنا: الملعب في الحي الذي نقطنه، والنادي البريطاني الذي يتمرن فيه، والمسابقات في مدرسته. في الثامن والعشرين من هذا الشهر، سيسير جاد مع رفاقه في المدرسة على الملعب الأخضر، ليحمل علم منتخب الكاميرون أو صربيا في مباراتهما في ملعب الجنوب. أنظر إلى حماسته وسعادته التي تظهر في كل تعابير وجهه. هذه المرة، في الثامن والعشرين من نوفمبر، سأرى داخل الملعب أكثر من رجال يركضون خلف كرة. هذه المرة سأحتفي بكرة القدم، بالسعادة التي تغمر عشاقها، وبالفخر الذي يملأ قلبي.