كان لنا زميل يعمل في إذاعة حلب، صحونا ذات يوم على نبأ اعتقاله من المخابرات، وعرفنا لاحقاً أن السبب هو تقرير رفعته زوجته عن سبه وشمته للنظام ورئيسه.
كنتُ من المداومين في المرحلة الثانوية على حضور الأنشطة في المركز الثقافي واتحاد الكتاب العرب في حلب، وكان أكثر ما يثير امتعاضي هو المقدم الدائم الذي كان ينسب كل فضل للرئيس القائد حتى ولو كانت المحاضرة عن الزلازل، وعرفت في ما بعد أن الرجل اعتُقل نجله، بتهمة التعاطف مع جماعة الإخوان المسلمين إبّان أحداث الثمانينيات، وأنه كان يرجو أن تشفع له هذه المزايدات بإطلاق سراح ابنه.
هاتان الحادثتان ليستا من وحي الخيال، بل هما قصتان حقيقيتان تضافان للآلاف من القصص الشبيهة في بلادي التي حكمها نظام الأسد على طريقة الأخ الأكبر.
تذكرت القصتين بعد مشاهدتي لفيلم "الرفاق الأعزاء!" (2020) للمخرج أندريه كونشالوفسكي عن حادثة مواجهة إضراب للعمال في منطقة نوفوتشركاسك، جنوب غربي روسيا، في 1 و2 يونيو/حزيران عام 1963. واجهت السلطات السوفييتية حينها الإضراب بالرصاص والاعتقالات، فسقط 26 قتيلاً ونحو مائة جريح وجرت اعتقالات كثيرة، وقامت السلطات بأخذ تعهدات من الجميع بعدم إفشاء أي تفاصيل عن هذه الحادثة تحت طائلة الحكم بالإعدام واعتبار ما جرى سراً من أسرار الدولة.
يبدأ الفيلم بمشهد غرامي يجمع البطلة ليودميلا التي أدت دورها الممثلة يوليا فيسوتسكايا، وهي زوجة المخرج، برئيس الفرقة الحزبية تستعجل الخروج من منزله للحاق بالمؤسسة الاستهلاكية التي تشهد ازدحاماً كبيراً للحصول على مخصصاتهم من الأغذية، ولكن البطلة تتجاوز الدور وتحصل على مخصصات أكبر لكونها كادراً من القيادة الحزبية للعمال في المنطقة.
قبل رحيلها تبدي البطلة امتعاضاً من الحالة، فيجيب عشيقها بأنها لا يحق لها ذلك ما دامت تحمل البطاقة الحزبية التي تؤهلها لنيل مخصصات أكبر من غيرها.
يقرر العمال الإضراب بسبب رفع الأسعار بنسبة 30 في المئة وخفض الأجور، وتفشل جهود الفرقة الحزبية العمالية والفرقة الحزبية في المنطقة بمعالجة الأمر، ويتفاقم التمرد، فترسل موسكو لجنة حزبية عليا وتجمع قوات عسكرية وأمنية لمواجهة العمال الذين يرفعون صور الزعيم فلاديمير لينين وأعلام الاتحاد السوفييتي.
يرفض الجيش إطلاق النار على المتظاهرين، فتقوم المخابرات بلباس الجيش بذلك، للقضاء على "الإضراب اللعين في مجتمعنا الاشتراكي... حيث نعيش في زمن رائع".
لم تشعر البطلة بأي شعور بالذنب، فهي دعت لإعدام المحرضين، ولكن مشكلتها كانت بإصرار ابنتها ذات الـ18 عاماً على الانضمام للمتظاهرين.
يقود خوف البطلة من مقتل ابنتها إلى زيارة المشرحة حيث تتجمع جثث المتظاهرين والمشفى حيث يقومون بقتل الجرحى أو اعتقالهم، ومن ثم معرفة أين أُخفيت الجثث حيث دفنت في قبور مجهولة بمساعدة ضابط استخبارات.
معاينة ومعرفة بطلتنا أن قناصي أمن الدولة هم الذين أطلقوا النار على المتظاهرين تغيرها من حزبية ملتزمة تنادي بإعدام المحرضين على الإضراب، وترى بالمتظاهرين مجموعة من الهمج والسكارى، إلى أم حنون تغامر للعثور عليها ومساعدتها للهروب من الاتحاد السوفييتي.
نجد هنا تعبيراً عن حالة عدم الرضا من قبل الكثير من الفاعلين داخل النظام القاسي والبيروقراطي كحالة هذا الضابط والقائد العسكري الذي رفض إطلاق النار ثم أُقيل ورفعت بحقه دعوى قضائية، وكذلك المدير الأمني الذي يقول في لحظة صدق إن من حق هؤلاء الشعور بالظلم.
تعبر الحادثة عن الحالة الانتقالية التي عاشها الاتحاد السوفييتي بعد موت جوزيف ستالين وحكمه الدموي ومجيء نيكيتا خروتشوف وانفتاحه الجزئي، ولا سيما بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي، وهنا يرد في الفيلم الكثير من التحسر على حكم ستالين، حيث تعبر لودميلا قائلة: "كنا نعرف العدو والصديق، قاتلنا في سبيل ستالين والآن هم يدوسونه"، فيجيب الجد الذي كان من القوزاق الذين حاربوا الثورة البلشفية: "كنت سأكون سعيداً لو لم أبصر الاثنين: ستالين وخروتشوف".
يبرز الفيلم المفارقات في الاجتماعات الحزبية حيث يتكاذب الجميع ويبدأ الاجتماع بعبارة "الرفاق الأعزاء"، ولكن كثيراً ما يختتم بعبارة "اخرسوا أيها الرفاق".
يبدأ الفيلم وينتهي على غناء النشيد الوطني للاتحاد السوفييتي الذي كتب كلماته والد المخرج، الشاعر سيرغي ميخالكوف، والتي تبدأ بعبارة "أيها الرفاق الأعزاء".
حصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم للنقاد والصحافيين السينمائيين ضمن مسابقة الفيل الأبيض، رغم طلب المخرج سحبه من المسابقة بناءً على طلب أخيه الأصغر، المخرج المعروف نيكيتا ميخالكوف، المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك احتجاجاً على منح المعارض الروسي ألكسي نافالني إحدى جوائز المسابقة على إنتاجه فيلم "قصر بوتين".
أدان المخرج الصمت ضد جرائم ستالين من قبل الرفاق، ثم أدان هذه الجريمة التي وقعت خلال عهد خروتشوف، لكنه وصف بوتين بأنه "ليبرالي مطلق".
هنا أود أن أدعوكم أيضاً لمتابعة فيلم "نافالني" عن المعارض الروسي ألكسي نافالني الذي سُمم من المخابرات الروسية، وعولج في ألمانيا، واعتقلته السلطات الروسية أثناء عودته لبلده، والمرشح لجائزة أوسكار عن أفضل فيلم وثائقي طويل.