في عام 1937، غنت أم كلثوم دور "عادت ليالي الهنا" من كلمات أحمد رامي وألحان زكريا أحمد، فكانت نهاية علاقتها بهذا القالب حتى رحيلها. وقبلها بعامين، غنى محمد عبد الوهاب آخر أدواره، "لو كان فؤادك يصفالي"، من كلمات أمين عزت الهجين.. وخلف زعيمي الطرب، سار الغناء العربي، وتوقف الملحنون والمطربون عن إنتاج الأدوار، وتعددت العوامل التي أعلت الحواجز بين الجماهير العربية وبين تراثها الغنائي الفخم الرصين، وأصبحت كلمة "دور" تستدعي في أذهان الشباب العربي صورة متحفية لمطربين مطربشين، ومستمعين يغالبون النوم من السآمة والملل.
بين قوالب الغناء العربي، ينفرد "الدور" باعتباره المستودع الأكبر للطرب الخالص، وهو بصيغته التي استقرت لعقود طويلة كان الوعاء المتسع لحمولة طربية ضخمة لا يحتملها الموشح أو القصيدة أو الطقطوقة، فكلماته بسيطة، تخلو من الصور البيانية المعقدة، أو التعبيرات الوجدانية العميقة، وكأنها مجرد وسيلة يشحنها الملحن بأفانين الطرب والسلطنة، بمستوى لا يقدر عليه إلا المطربون المتمكنون، المتوجهون بغنائهم إلى مستمع جعل من الطرب غرضا أسمى وهدفا وحيدا لا يطلب الغناء إلا لتحصيله والتمتع بنشوته.
من الصعب وضع تعريف جامع مانع منضبط للدور الغنائي، وكل التعاريف التي وضعها الموسيقيون لا تفيد كثيرا في إقامة فهم دقيق عن هذا القالب في نفس المستمع، الذي يظل بحاجة إلى الاستماع المتكرر لنماذج مختلفة من الأدوار حتى يضع يده على طبيعتها وخصائصها، ويفرق بينها وبين غيرها من القوالب.. فتعاريف الدور أقرب ما تكون إلى وصف تقريبي، لا يعتمد عليه دون اطلاع على النماذج التلحينية المغناة.
ومن هذه التعاريف ما قرره فيكتور سحاب من أن الدور هو: "شكل موسيقي غنائي تطور في القرن التاسع عشر، يبدأ بمذهب، يليه دور في اللحن نفسه، ثم آهات، يليها تطوير لحن الدور، حتى بلوغ الذروة ثم الختام، ومعظم الأدوار تتضمن محاورة أخذ ورد بين المطرب والمذهبجية. فالدور اسم للقالب، وهو أيضا اسم للجزء الثاني منه".
وفي التعريفات الوصفية أيضا، يرى الباحث السوري الراحل محمود عجان أن الدور هو "أهم الصيغ أو القوالب في الموسيقى العربية، وقد ظهر في القطر المصري حوالي منتصف القرن التاسع عشر، وكان ظهوره بادئ الأمر ضعيفا وهزيلا، من ناحيتي النظم الشعري واللحن الموسيقي، ولكنه سار في ما بعد نحو التقدم، حتى بلغ ذروة مجده مطلع القرن العشرين".
ارتبط ظهور الدور ارتباطا وثيقا باسم الملحن المصري المعمر الشيخ عبد الرحيم المسلوب، واعتبره أكثر مؤرخي الموسيقى مؤسسا لهذا القالب في صورته الأولية، إذ لا يعرف أحدا أدوارا قبل الرجل، وقد استدل المؤرخ الموسيقي كمال النجمي على علاقة المسلوب التأسيسية بالدور بما دونه علماء الحملة الفرنسية عن الموسيقى المصرية، وهو تدوين ضخم شمل كل أنواع الموسيقى والغناء السائدة في القطر المصري، فأسفر عن مجلدين ضخمين من الكتاب الشهير "وصف مصر"، ولم يكن في هذا التدوين أثر لقالب الدور ولا لشكل قريب منه.. والمسلوب يمثل آخر ما تصل إليه سلسلة الموسيقى المصرية المدركة، ولم تُعرف قبله الأدوار، كما لم تعرف عن أحد من أقرانه ومجايليه، وإنما كانت دائما من أعماله ومن أعمال تلامذته ومن أخذوا عنه أصول الفن.
لم تطل الصورة البدائية للدور كثيرا، بعد أن تصدى لتطويره والنهوض به عبقري من عباقرة التلحين هو الموسيقي المصري محمد عثمان، فأصبحت الخطة اللحنية للدور أكثر اتضاحا.. أضاف الرجل "الآهات" فكانت مجالا فسيحا لإبداع الملحنين، ووسيلة لتنشيط المستمع ودفع أي احتمال لتسرب الملل إليه، كما أضاف ما يعرف بالهنك، وهو تبادل جملة محددة بين المطرب والمرددين، مع منح المطرب مساحة واسعة للتلوين والتصرف، ليبلغ المستمع ذروة الانتشاء والسلطنة.
وقد وضع محمد عثمان عددا كبيرا من ألحان الأدوار صارت تمثل المرجعية العليا لهذا الفن، لاسيما بعد أن توارثتها أجيال المطربين الكبار، وأداها عمالقة الغناء أواخر القرن التاسع عشر، والعقود الأولى للقرن العشرين، ومازالت أدوار عثمان هي الذروة العليا التي لم يبلغها أحد، ويعتبر حفظها وأداؤها أحد أهم الدلائل على قدرة المطرب وتمكنه.
ومن أهم أدوار عثمان وأشهرها: أصل الغرام نظرة، بستان جمالك، عشنا وشفنا سنين، بعد الخصام حبي اصطلح، كادني الهوى وصبحت عليل، في البعد ياما كنت أنوح، جددي يا نفس حظك، عهد الأخوة نحفظه، حظ الحياة، قدك أمير الاغصان، من يوم عرفت الحب، اعشق الخالص، قد ما أحبك زعلان منك، وعشرات غيرها غناها أساطين الطرب من أمثال يوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي وسليمان أبو داود، وعلي عبد الباري، وزكي مراد، وسيد الصفتي، وصالح عبد الحي، وعباس البليدي.
كما كان للفنان الرائد عبده الحمولي مساهمة كبيرة في النهوض بفن الدور من خلال إبداعه لعدد من الألحان المبهرة من هذا القالب، من أشهرها: الله يصون دولة حسنك، مليك الحسن في دولة جماله، شربت الصبر من بعد التصافي، متع حياتك بالأحباب، الحب صبحني عدم.. وبعد رحيل الحمولي وعثمان مطلع القرن العشرين، برز عدد من كبار ملحني الأدوار، وفي مقدمتهم: إبراهيم القباني، وأحمد غنيمة، ومحمود الخضراوي، وعلي القصبجي، والد الموسيقار محمد القصبجي، كما كان لداود حسني وزكريا أحمد في تلحين الدور حظ وافر.
ومثلت الأدوار العشرة التي لحنها سيد درويش محطة مهمة وصفحة مضيئة في تاريخ هذا الفن.. وبالرغم من التزام الشيخ سيد بالخط الشكلي لدور محمد عثمان، إلا أن أدواره حملت رؤية خاصة، وتفكيرا موسيقيا مختلفا، يشعر به المستمع من أول الاستهلال، ثم يتجلى واضحا مع أسلوبه المغاير في الآهات والهنك.. ولا شك في أن تلحين درويش لأدواره العشرة بعشر مقامات يدل أن الرجل كان يحمل خطة أو مشروعا لإثراء فن الدور وتطويره.
أسباب مختلفة، كانت وراء تراجع الدور، وزهد الملحنين والمطربين المشتهرين في إنتاجه، وقد أرجع الباحث السوري الراحل محمود عجان ما آل إليه فن الدور إلى عدة عوامل من أهمها: "أن تلحين الدور الناجح يتطلب موهبة ومقدرة وعلما وفهما ونضجا على مستوى عال، وهذا غير ميسور، كما يتطلب غناء الدور من مؤديه المقدرة والمعرفة والمرونة وحسن التنقل بالأبعاد والقفلات، ومعرفة الأصول والأحكام اللازمة لذلك.. وومراعاة الأزمنة الإيقاعية، وبيان مواضع القوة والضعف، والانسياب والمزج، والقدرة والسيطرة على التلاعب الصوتي"، وكلها إمكانات لا تتوفر الآن.
كما يرى عجان أن هناك إشكالا في طاقة المستمع وقدرته على فهم الدور، باعتباره أصعب الصيغ الغنائية العربية على أذن المستمع، وعدم تقبل كثير من المستمعين لفكرة تكرار الألفاظ التي يقوم عليها الدور، لاسيما هؤلاء الذين يهتمون بالمعاني الشعرية للنص المغنى.. ويوضح عجان أن صيغة الدور وضعت خصيصا "لإحداث أكبر تأثير وأعظم وقع للتطريب المباشر المملوء بالحيوية والنشاط والحركة، ويسيطر على مشاعر السامع ونفسيته.. كما كان لظهور قوالب غنائية جديدة وفي مقدمتها "المنولوج" أثر كبير في مسيرة التراجع الجماهيري التي بدأها الدور".
ويمكن أن نضيف إلى الأسباب التي أوردها عجان، أن الجماهير العربية، بدءا من حقبة خمسينيات القرن الماضي لم تطلع بصورة واضحة ومتكررة في الإذاعات والتلفزات على أساليب الأداء الكلاسيكي لقالب الدور بما تتيحه من من مساحة واسعة للتصرف والارتجال واستعراض التكرارات التي لا تتطابق أبدا، ويمكن أن نمثل لهذا الجانب بدور سيد درويش المشتهر "أنا هويته" الذي أداه عدد من كبار أهل الفن وفي مقدمتهم محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وفيروز، لكنهم كانوا جميعا بعيدين عن روح فن الدور وشخصيته.. ولعل ذلك يتضح جليا بمقارنة أداء هؤلاء الفنانين بأداء المطرب المتمكن عباس البليدي لنفس الدور، بأسلوب كلاسيكي يراعي الأصول والتفاصيل الدقيقة المميزة لهذا الفن وما يستهدفه من جرعات الطرب الكبيرة.
لقد اقترب الأداء الحديث للأدوار القديمة من طرائق أداء المنولوج والأغاني الخفيفة، وربما كان المثال الصارخ على ذلك دور "رجعت ليالي زمان" الذي غنته فيروز للأخوين رحباني، بلحن وأداء لا يحمل من فن الدور إلا الشكل في النص وتقسيم أجزاء اللحن ووجود الآهات وجملة للترديد.. مع خلو تام من الاستعراض الحر بـ"التكرار المتجدد" أو القفلات المطربة.. وكعادة فيروز مع الرحابنة، أدت اللحن أداء حرفيا، بل استنسخت نفس الأداء في الحفلات المختلفة، فلا يكاد المستمع يميز تسجيلا من آخر.. لكن المؤكد أن تفكير الرحابنة وفيروز -أوائل السبعينات- في إنتاج دور جديد، كان فعلا فنيا جديرا بالانتباه والتأمل.
مع دخول شبكة الإنترنت إلى كل بيت، وانتشار المواقع الإلكترونية المتخصصة في الغناء والموسيقى، وتحويل الآلاف من التسجيلات القديمة والأسطوانات إلى نسخ رقمية متاحة، أخذ الإقبال على الغناء الكلاسيكي عموما والأدوار على وجه الخصوص في التزايد والاتساع، وتعرف كثيرون على روائع الأدوار المصرية، وبرز عدد من المطربين المهتمين بهذا الفن الكبير.. ويمكن أن نمثل لهؤلاء بالمطرب المصري المقيم في لندن طارق بشير، الذي أعاد تقديم كثير من الأدوار بأسلوب كلاسيكي يتسم بالمتانة، والتزام النمط الموروث في أداء الدور، مع استغلال مساحة الحرية التي يتيحها القالب في إنتاج "أداء شخصي" لا يعرف الاستنساخ الحرفي.
لكن إحياء فن الدور لا يمكن أن يستمر إلى الأبد في استعادة الأعمال القديمة، وتكرار ما خلفه محمد عثمان والحمولي والقباني وسيد درويش وزكريا أحمد.. هذا أمر مقبول مرحليا، بعد عقود الخمود والإهمال والتراجع، وهو مهم لإعادة تعريف الأجيال الجديدة بهذا الفن المهم.. ويبقى الإحياء الحقيقي ينتظر إنتاج أدوار جديدة، بنصوص وألحان جديدة، وهو ما شهدناه في فن الموشحات، من خلال تجربة الموسيقي الحلبي محمد علي بحري.
لا ريب في كون إحياء الدور الغنائي أمرا يتسم بالصعوبة والتعقيد، إذ يتطلب الأمر شعراء وأدباء يتصدون لكتابة نصوص صالحة.. ثم تكون الخطوة التالية في التلحين، وتلك مهمة تحتاج إلى قدرة وجرأة معا، وربما حينها لن يعدم هذا الفن أصواتا قادرة على تحمل المهمة.. ومع الإقرار بكل الصعوبات والتعقيدات، إلا أن الأجيال الجديدة من محبي الطرب الكلاسيكي، ومكتشفي تراث آباء الموسيقى الأولين لا يقبلون بهزيمة "الدور" ولا بطي صفحته أو قصره على الاستدعاء من التاريخ، وهو ما يمنح فكرة "الإحياء" قوة دافعة، ويجعل "سؤال الإمكان" مشروعا.