"إلى أرض مجهولة" لمهدي فليفل: إشارة استغاثة فلسطينية عن وضع لا يُطاق

09 يونيو 2024
محمود بكري وآرام صباح في "إلى أرض مجهولة" (الموقع الإلكتروني لمسابقة نصف شهر السينمائيين)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "إلى أرض مجهولة" يعكس تجربة اللجوء والبحث عن حياة أفضل، متناولاً قصة شاتيلا ورضا الساعيين للهجرة بجوازات سفر مزورة، ويبرز التحديات والصراعات الداخلية للشخصيات.
- المخرج مهدي فليفل يستخدم تقنيات سينمائية مؤثرة لنقل الجمهور إلى الواقع القاسي لللاجئين، معالجاً موضوعات مثل الإدمان واليأس، ويعكس الحالة النفسية للشخصيات من خلال خلفيته الشخصية.
- الفيلم يعمق النظر في الهوية الفلسطينية وتحديات الحياة تحت الاحتلال، مقدماً صورة معقدة ومتعددة الأبعاد للشخصيات، ويؤكد مهدي فليفل مكانته كمخرج موهوب يسلط الضوء على القضية الفلسطينية.

كهرباء خاصة كانت تسري في صالة مسرح لاكروازيت الممتلئة، عند عرض "إلى أرض مجهولة" للفلسطيني مهدي فليفل، في "نصف شهر السينمائيين"، في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2024) لمهرجان كان، قطعت مع جوّ الأريحية واللارسمية الذي تجرى فيه عروض أفلام هذا القسم، المهتمّ بكتابات وأساليب متفرّدة للمخرجين. مزيجٌ من توقّعات عالية إزاء فيلم فلسطيني، حاضر في اللائحة الرسمية، وتقاطعاته مع راهن حرب إبادة همجية، يشنّها الجيش الإسرائيلي على غزّة، لم يفت مندوب القسم، جوليان ريج، تأكيده أنّ الفيلم يتصادى بشكل فعّال معها، قبل أنْ يمنح الكلمة لفليفل، الذي قال إنّ المدة الفاصلة بين تصوير العمل وتقديمه في كانّ لا تتجاوز ستة أشهر، وإنّه لا يزال غير مستوعبٍ كيفية تحقيق ذلك، رفقة فريقه الفني والتقني.

لعلّ هذا الطابع، المستعجل إلى حدّ ما لصنع الفيلم، انعكس على الشاشة مُطيلاً أمد شحنة الكهرباء، بل مُعزّزاً لها، بمجرّد بدء العرض، وتقديم الشخصيتين الرئيسيتين شاتيلا (محمود بكري) ورضا (آرام صباح)، العالقَين في وضع مزرٍ في أثينا، بانتظار تمكّنهما من الهجرة إلى ألمانيا بجوازي سفر مزوّرين. في البداية، يسعى البطلان المضادان إلى جمع مالٍ طلبه المهرّب مروان (منذر ريحانة) لتهجيرهما بطريقة غير شرعية، عبر سرقة سيدة عجوز بحيلة مبتكرة. في تفقّدهما ما غنماه، يظهر التضاد المطلق بين شخصيّتيهما: شاتيلا، الأكبر سنّاً، حادّ الطباع، واقعي ومفرط في الجدّية؛ ورضا حالم ورقيق ومنصاع. هذا دفعه إلى الإدمان، هرباً من وضع لجوء يائس في اليونان، برع السيناريو، المقتبس بحرّية عن رواية "رجال في الشمس" (1963) للفلسطيني غسان كنفاني (كتابة فليفل والمغربي الإنكليزي فيصل بوليفة والإنكليزي جايزون ماكلوغان)، في التقاطها، بإجراء بحث ميدانيّ في أثينا، وتصوّرها كفضاء برزخي، أو "حلقة وسطى" (أليغيري) بين جهنم، منبع المخيّمات، وفردوس المسعى الأوروبي.

إدمان رضا سيُشكّل حتى النهاية سيف ديموقليس تراجيدياً، مُسلّطاً على حلم الهجرة إلى ألمانيا، كمعطى حتمي، أو شرط لا يمكن تجاوزه، لأنه مترتّب على أوضاع لا تُحتمل صعوباتها.

يُظهر الفيلم تأثّراً كبيراً بموجة السينما البريطانية الجديدة (كاتبو السيناريو الثلاثة درسوا في بريطانيا)، باللجوء إلى عدسة ذات بعد بؤريّ طويل، تسحق أفق النظر، وتحبس الشخصيتين في بيئة اقتصادية ـ اجتماعية لا يمكنهما الهروب منها. وأيضاً بالنزوع إلى تصويرهما في فضاءات حقيقية، تعكس وضعيتهما الداخلية، أي الحاضر، في تزاحم اللاجئين في أماكن ضيقة وخراب، كذاك الذي يستغلّه شاتيلا لخزن أمواله، قبل أن تُستلّ منه وفق تطوّر درامي أولي صادم في البداية، فيصفع ابن عمّه ويطرده من المسكن. لكنّه يحتضنه سريعاً، كأنّ شيئاً لم يكن.

سيزيفية تُشكّل شرطاً فلسطينياً عميقاً يتمثّله الفيلم بوضعيات (الطرد من المسكن، فقدان الممتلكات، إلخ.) تحاكي من دون رمزية فجّة أو خطابية شروط العيش في الداخل، وبانعكاس مرآويّ في مخيّمات لبنان، من حيث تنحدر الشخصيتان، وحيث أمضى مهدي فليفل طفولته، التي تمثّل قصصاً منها في فيلمه الأول "عالم ليس لنا" (2012).

"وأنت؟ ليش طلعت من لبنان؟"، "لبنان مش بلادنا، لبنان زيّ السجن، مثل عندكم في غزّة"، يقول رضا. عالم المخيّمات، الحاضر هنا بقوّة ما، يظلّ خارج الحقل، عبر مكالمات مع زوجة شاتيلا ووالدة رضا، لا تفلح كلماتهما، الساعية إلى التخفيف عنهما بصوت يخنقه الأسى، سوى في تأجيج الأزمة، والتأكيد على أنّ العودة ليست خياراً مُمكناً. لكنّ الشرط الأساسي، الذي يعبّر عنه الفيلم بإيحائية خلّاقة، يتمثّل في كيف أنّ المعيشة القاسية والحصر في الزاوية يُخرج من الفلسطيني ما ليس فيه، وهذا عبّر عنه محمود بكري بأداء لافتٍ، في مونولوغ يقول فيه كيف أنّ الظروف حوّلتهما إلى سارقَين ونصّابَين، بينما هما يحلمان بعيشٍ كريم، وفتح مطعم متخصّص بالطبخ الفلسطيني، في منطقة ألمانية يعيش فيها عربٌ.

إحالة فيها التقاطٌ لراهن "عملية 7 أكتوبر"، التي يحلو للبعض أنْ يراها هجوماً، بينما هي إشارة استغاثة وتحذير في آنٍ من وضع لا يُطاق، وترسّب لعقود من الصمود والنضال بغية استرداد حقوق مهضومة.

لقاءٌ مزدوج يأخذ "إلى أرضٍ مجهولة" في منعطف درامي وجمالي: صبي (13 عاماً) قادمٌ من غزّة، يَعلَق بدوره في أثينا، بعد أنْ غَدر به مهرّبه، وأخلف وعده بأخذه إلى عمّته في إيطاليا، وتاتيانا الأربعينية يونانية مُفلسة، تمضي وقتها في احتساء الكحول. يُشكّل التعرّف إلى هاتين الشخصيتين الثانويتين وضعيّتَين جديدتين، تُخرجان شاتيلا ورضا مؤقّتاً من أفقهما الضيق: أخيراً، يظهر الأول وهو يرقص ويداعب اليونانية بحنان كأنّها زوجته، والثاني يحتضن الصبي الغزّي بحنان أبوي، يُلهيه عن تناول المخدّرات. كأنّنا نكتشف نبذة عن الوجه الآخر لما يمكن أن تغدوه الشخصيّتان، إنْ نجحتا في السفر إلى ألمانيا.

تلي ذلك دوّامة درامية من أحداث لن نفصح عن فحواها، لكنّ مهدي فليفل توفَّق في تقفّيها بإيقاعٍ سريع، ينهل من نوع الثريلر وفيلم احتجاز الرهائن. ولعلّ اللحظة المفتاحية، التي تشهد التقاء الأوج الدرامي بخطٍّ نصف خبيء حول الشرط الفلسطيني، تتمثّل في مشهد أنثولوجي، سرت له قشعريرة في أبدان المشاهدين، وسط صمت جنائزي لفّ "مسرح لاكروازيت": فلسطينيون يأخذون رهائن فلسطينيين يصرخون "تحيا سورية". لا أحد منهما يثق بالآخر، أو يستوعب ما يقوله، قبل أنْ يشرع أحدهما في إلقاء قصيدة محمود درويش "سقط القناع"، والأبيات التي تقول "سقطت قربك فالتقطني/ واضرب عدوّك بي/ فأنت الآن حرّ"، تُلقى على خلفية المحتجِزين والرهائن كصورة وانعكاسها على مرآة. مشهد مُدوٍّ كقنبلةٍ. أهناك فعل مقاومةٍ أشدّ يأساً وأملاً، في آن، من أنْ يؤذي المرء نفسه من أجل حرّيته؟

من نقاط قوّة الفيلم تناوله شخصية الفلسطيني بعيداً عن الملائكيّة، التي تحمل في عمقها أبويّة واستغلالاً معظم الأحيان. هذا يُشكّل فعل مقاومة للتمثّلات النمطية. كغيره، يسرق الفلسطيني ويكذب ويشتم ببذاءة، وربما يمارس جنساً مثلياً. إنّه إنسان، ومن رحم هذه الإنسانية تنبع أسمى شرعية يستحقّ بموجبها أنْ يعيش حياة كريمة كالآخرين، خاليةً من مضايقات الاحتلال وجرائمه.

رغم مقارنة البعض للفيلم بـ"سارقو الدرّاجة" (1948) للإيطالي فيتّوريو دي سيكا، يندرج "إلى أرض مجهولة" (العنوان مستمدّ من مقطع لإدوارد سعيد، يفتتح الفيلم: "بطريقة ما، إنّه قدر للفلسطينيين ألّا ينتهي بهم الأمر إلى حيث بدأوا، بل إلى أرض غير متوقّعة وبعيدة") في إرثٍ سينمائي عربي عريق، يحكي المأساة الفلسطينية بموشور الاستعارة، أوضحها "المخدوعون" (1972) للمصري توفيق صالح، المقتبس عن رواية "رجال في الشمس" أيضاً. لكنْ، امتلك "إلى أرض مجهولة" ذكاء تحيين الرؤية التي تناول بها القصة بتناغم مع وضع أكثر تراجيديةً واستعجالاً. لا وسيلة لطرق جدران الحافلة، المنطلقة بسرعة سيارات الإسعاف، التي يجلس على مقاعدها الخلفية شاتيلا ورضا، في رحلتهما النهائية نحو "أرضٍ مجهولة". لم يعد طرق الجدران يجدي في شيءٍ على أيّ حال.

لكن الأكيد أن ما قدّمه فليفل في كانّ هذا العام يكرّس نجاح مسيرته التي عمل على رسمها على مهل، وقد حصد ثمن تأنيه هذا، إذ سبق أن حصد جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين عام 2016 عن فيلمه القصير "العائد" (A Man Returned)، ثم رشّح لجائزة بافتا عام 2018 عن فيلمه القصير "الغريق" (A Drowning Man)، وها هو يعرض فيلمه الروائي "إلى أرض مجهولة" ضمن عروض "نصف شهر السينمائيين".

المساهمون