أصاب الموسيقي، عازف الإيقاع والإلكترونيات السوري، علي حسن، في مستهل الحديث معه، عقب الانتهاء من أداء فقرته التي شارك بها على دربكة مضيئة موصولة بحاسوب ومكبرات صوتية، حين قال، إن على أي فنان عربي "أن يشعر بالعار، إن لم يسمع من قبل بحليم الضبع"؛ إذ كان إرث هذا الأخير، موضوع الحفلة والندوة التي شارك فيها حسن، إضافة إلى كل من المؤلفة عازفة الإلكترونيات الفرنسية جيسيكا إيكومانه Jessica Ekomane والفنان التشكيلي الإسباني لورينسو ساندوفال Lorenzo Sandoval، بإدارة لينان بالاتبات Lynhan Balatbat.
الحدث جزء من تظاهرة متعددة الفعاليات، من عروض موسيقية ورقصية، وأدائية فنية، أو ما يُعرف اليوم بـ Performance، إضافة إلى الندوات والقراءات النقدية والأفلام الوثائقية، تُحيا وتُعقَد جميعها احتفاءً بمرور مئة عام على مولد الضبع (1921 - 2017) وهو مصريٌ من رواد الموسيقى الإلكترونية في القرن العشرين والقرن الذي تلاه. تظاهرة، أطلقتها ورعتها دار مهرجانات برلين Haus der Berilner Festspiele ضمن فعاليات مهرجان آذار للموسيقى Maerzmusik Festival للجاز، نسخة هذا العام.
الفعالية هي ثمرة تعاون كان قد استغرق أطول من عام بين إدارة المهرجان و"سافي المعاصر" Savyy Contemporary وسافي، بإدارة مُنسّق العروض الفنية الكاميروني العالمي، بونافانتور سوه بيجنغ نديكونغ Bonaventure Soh Bejeng Ndikung، هو فضاء للفنون Art Space يُعدّ من أهم المؤسسات المستقلة في أوروبا، التي تُعنى بالثقافة السوداء، سواء على امتداد القارة الأفريقية، أو العالم، بطيف واسع ممتد، يبدأ بالأنثروبولوجيا ولا ينتهي عند الجاز والهيب هوب.
في كلمة لمدير سافي، عن حليم الضبع، بحضور المدير الفني لمهرجان آذار الموسيقي، برنو إودو بولتزر Berno Odo Polzer، ومديرة الحوار الفنانة والكاتبة المصرية كاميليا متولي، تحدث بونافنتور عن أن سبب الاحتفاء بإرث حليم الضبع، إنما ينبع من عزمٍ على نقض نهج مسح الذاكرة، أو التغييب الثقافي، الذي غالباً ما يطاول إبداعات وإسهامات مجتمعات ما بعد الكولونيالية، أفراداً كانوا أم جماعات، وذلك بتوفير إمكاناتٍ لإعادة ظهور، إعادة كتابة، وإعادة صياغة تاريخٍ عادة ما يُمليه المستعمر.
من هنا، ينطلق بونافنتور بالنظر إلى قراءة كتابات حليم الضبع والاستماع إلى مؤلفاته. إذ لا يجدر بدارس إرثه مجرد حشْره، بصورة استنسابية، ضمن شجرة أعلام الموسيقى الإلكترونية، بل يجب عليه التوغّل أبعدَ، والإنصات بتركيز أشدّ، إلى ما سُجِّل له من أسطوانات، وما أُنجز من كتابات، سواء كعالِم في الموسيقى (ميوزيكولوجي)، أو حتى ككائن سياسي، لا وبل الاستماع إلى موسيقاه، بوصفها فلسفة خالصة.
استطراداً، تطرّق بونافنتور إلى حليم الضبع، من زاوية عدة مؤلفات، أخذ يدلّل بها على وجود أرضية فلسفية لأعماله الموسيقية. إحداها، مقطوعة تعود إلى عام 1949، تحمل عنوان "تطور وانحدار" (Evolution And Decadence)، تسبر السيرورة الموسيقية، كتطور يبدأ بظهور الفكرة الموسيقية، والمقامية، ثم اضمحلاله. تتقصى مسارها، ابتداءً بصوت بسيط، نغمة وحيدة، عبر الزمان، وبتأثير عناصر مختلفة في الكون، إلى حين عودتها صوتاً مُتحداً بأصوات أخرى، فتؤول من جديد واحداً منفرداً؛ أشبه بسردٍ موسيقي للخلق.
العمل الآخر يعود إلى سنة 1955، وعنوانه "مقطع على طراز القطع" (Mekta’ In The Art Of Kita’) لآلة بيانو معدّلة، يسمع بونافنتور عبره مجموع أسئلة، عن الصوت، ما الذي يولّده؟ وما الذي يعنيه؟ كان الضبع قد ألف القطعة مُحتضناً شكلاً شعرياً، عُثر عليه في منطقة الواحات المصرية، يقوم على تجاور الأبيات وتطورها، انطلاقاً من أن الكل يلد من رحم الواحد، والواحد يلدُ من رحم الكل. بإسقاطه ذات المبدأ على السماع، أو الاستماع إلى الموسيقى، يُشير المؤلف إلى أن المستمع ما أن يسمع، يُصبح مشاركاً في إبداع المسموع، وكأن الموسيقى حاصلُ اتحاد المقطع، أي القطعة ومؤلفها، مع مجموع القطع، أي الجمهور.
مؤلفٌ آخر للضبع، استحضره بونافنتور، هو "تأملات في ضوضاء بيضاء" (Meditation In White Noise) صدر سنة 1959، يُؤدى بآلة تُدير شريطاً إلكترونياً. يرصد العمل كيف يتولد الانسجام من التشرذم، من نشاز يتمحور حول نقطة طباق، من تراكب خطوط لحنية. كل ذلك كان تأملاً لماهية الضجيج الفيزيائية والمادية، وكيف للموسيقى أن تُصبح شكلاً من النحت، فتبرز عند الضبع النزعة "السينستيتيّة" (Synesthesia) أي ذلك التواكب الإدراكي بين حاسة السمع، عبر الموسيقى، وحاسة النظر عبر رؤية الألوان والمجسمات.
أما المؤلف الأخير، الذي أتى على ذكره بونافنتور، فكان "تونوغرافي" (Tonography) من إصدار عام 1981، يستلهم فيه أهازيج مصرية وإثيوبية، علاوة على كونه سبراً لإمكانية اختبار جسد المؤدي الفنان ضمن علاقة تصله بالنغمة وبالمكان. في هذا الإطار، يتلو بونافنتور مُقتبساً من نصٍ للضبع مقطعاً واصفاً به مؤلفه، فيقول:
"إيماءة الحركة الجسدية للمؤدي، في أثناء عملية توليد اللحن، تساعد في تحديد إنتاج الأنغام. الصوت والنغم عند البدء، يقومان بتشكيل المكان. أما المؤدي، فيتابع بجسده النغمة، يُخطط لها حركتها في المكان، اهتداءً بلغة لها مفرداتها من رموز وتصاميم. بواسطتها، يقوم فعل الأداء، عبر الإيماء، بإخطار الصوت، بقدر ما يقوم الصوت، عبر الفضاء، بإخطار الأداء".
هو كشفٌ، إذن، موسيقي وثقافي، حظيت به العاصمة الألمانية الأسبوع الماضي، ضمن فعاليات مهرجاناتها الموسيقية، وذلك من خلال تسليط الضوء على حليم الضبع وإرثه الفني والفكري والعلمي، عَلَمٌ كبير، قلما يؤتى على ذكره في الأوساط الثقافية، ناهيك عن الموسيقية. ليس لشيء، سوى لأن مجهوده قد انصبّ على الموسيقى، ليس بوصفها وسيطاً تقليدياً للتطريب والترفيه والترويح، بل مِخبر لدراسة الوجود والطبيعة. وتلك مقاربةٌ لم يعتدها الغرب، أن تصدر عن غير الغربيين.
أما العرب، فكثيرهم لم يعلموا بوجود هكذا مقاربة أصلاً، فضلاً عن معرفتهم بحليم. هم الذين سبق لهم أن سجّلوا تاريخاً ماضياً، يزخر بأبحاث تناولت الموسيقى من أبوابٍ علمية، فلسفية وحتى علاجية. تراث استمر به الضبع، فجعله حاضراً، ليس على خطى أجداده المصريين القدماء وحسب، بل العرب والمسلمين أيضاً، كالكندي والفارابي وزرياب، في الذهاب بالموسيقى أبعد من كونها محض متعة حسية، لتغدو مجالاً لا نهائياً لطرح الأسئلة عن العلائق التي تؤلف الوجود، وتربط الإنسان به.