منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تمارس قوات الاحتلال الإسرائيلي عقاباً جماعياً بحق المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة. ليس ابتداءً من رمي أطنان من الصواريخ فوق رؤوس العزّل، مروراً بالأحزمة النارية التي استهدفت مناطق كاملة، وليس انتهاءً باغتيال الذاكرة الفلسطينية والجغرافيا والديمُغرافيا، في اعتداء منهجي هدفه الواضح هو التطهير العرقي.
استمرت هذه الهجمات الهمجية حتى اللحظة من دون توقف. بين سطور الاعتداء، كان هناك منهج إسرائيلي قديم، ينفذه جيش الاحتلال الآن وفي كل لحظة في القطاع. منهجية التطهير العرقي التي بدأتها الحركة الصهيونية في فلسطين تُجدد الآن وتتكرر. لكن الاختلاف الوحيد هو أننا نراها في الصور التي تخرج عن حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة الآن. وهنا نرى أن الحدث يؤرخ نفسه، من دون الحاجة إلى إبداء آراء المؤرخين، ومن دون جدل بين المؤرخين التصحيحيين أو الدبلوماسيين. مبادئ التطهير العرقي التي يحاول الاحتلال الإسرائيلي محوها وطمسها منذ أربعينيات القرن الماضي، تتوهج وتتضح بمساعدة الإعلام المباشر. تتضح بالصوت والصورة.
التطهير العرقي ووحشية الأداة الإسرائيلية
في ديسمبر/كانون الأول الماضي، كشفت صور صدرت عن جيش الاحتلال الإسرائيلي اعتقال المئات من المواطنين في شمال قطاع غزة. عبّرت الصور عن وحشية الأداة الإسرائيلية التي عذبتهم وأهانتهم، ونكّلت بالكرامة الإنسانية لدى المعتقلين. وعلّقت الصحف الإسرائيلية على هذه العمليات؛ إذ قالت صحيفة هآرتس إن المعتقلين يتراوحون بين قاصرين ومسنين. وتبعاً للصحيفة؛ فإن عدداً من المعتقلين لاقوا حتفهم إثر التعذيب، من دون الإشارة إلى ظروف الوفاة. كان هناك ردود لمنظمات دولية، مثل هيومن رايتس ووتش، أدانت فيها هذه الانتهاكات واعتبرتها مخالفة للقانون الدولي.
وبالعودة إلى تاريخ الاحتلال الإسرائيلي أعقاب عمليات التطهير العرقي؛ كانت مشاهد المعتقلات التي احتُجز فيها القرويون الذكور من سن العاشرة إلى الخمسين مشاهد مألوفة في الريف الفلسطيني، تبعاً للمؤرخ إيلان بابيه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين". قال بابيه إن هؤلاء المعتقلين كانوا يُنقلون في وقت لاحق إلى معسكرات اعتقال مركزية.
أضاف: "عانى آلاف الفلسطينيين خلال عام 1949 في معسكرات الاعتقال التي نُقلوا إليها من المعتقلات المؤقتة. وفي رواية أحد الناجين من الطنطورة، بعد أن أُطلق سراحه من أحد معسكرات الاعتقال، وضمّنها في كتاب "عن تلك الأيام" الذي نشره في عام 1951، قال نمر الخطيب: كنا 300 شخص، والقبو لا يتسع لنا، ونحن وقوف مهما التصق بعضنا ببعض، وبقينا على هذه الحالة ثلاثة أيام كاملة لم نذق فيها شيئاً من الطعام".
وبالعودة إلى التوثيق الإعلامي لمعاناة المعتقلين، سُجلت شهادات للمعتقلين بعد خروجهم من مراكز الاعتقال،
ووثق العديد من المؤسسات الإعلامية صوراً ومقاطع فيديو تحدث فيها المعتقلون عن التعذيب الذي تعرضوا له.
وفي تقريرها، قالت صحيفة ذا نيويورك تايمز إن المعتقلين الفلسطينيين في غزة قد جُرّدوا من ملابسهم، وتعرضوا للضرب والاستجواب والحبس الانفرادي طوال ثلاثة أشهر، وذلك وفق شهادات المعتقلين. قال أيمن لباد أحد المعتقلين السابقين لدى قوات الاحتلال الإسرائيلي إنه لم يُستجوب إلا بعد نقله إلى مركز احتجاز آخر في القدس. وأضاف في شهادته: "لقد عاملونا مثل الحيوانات، كانوا يضربوننا بالعصيّ ويسبوننا".
النساء الفلسطينيات
في الـ19 من فبراير/شباط الماضي، صدر تقرير عن الأمم المتحدة عن تعرض عدد من سيدات وفتيات من قطاع غزة للاغتصاب على يد قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وأشار إلى أن هناك تقارير موثوقة بشأن هذه الانتهاكات. تفيد هذه التقارير بأن العديد من النساء تعرضن إلى التهديد بالاغتصاب. في حين قال الخبراء إن ما لا يقل عن فلسطينيتين تعرضتا للاغتصاب والعنف الجنسي.
أضاف خبراء الأمم المتحدة في بيانهم: "نحن نشعر بالأسى تجاه التقارير التي تفيد بأن النساء الفلسطينيات المحتجزات قد تعرضن لأشكال متعددة من الاعتداء الجنسي: مثل تجريدهن من ملابسهن وأن ضباطاً ذكوراً من الجيش الإسرائيلي فتشوهنّ".
عما حصل في النكبة، يقول بابيه: "كشفت الذكريات الشفهية عن حالات اغتصاب عديدة خلال احتلال القرى الفلسطينية. بدءاً بقرية الطنطورة في مايو/أيار، مروراً بقرية فولة في يونيو/حزيران، وانتهاء بقصة بعد أخرى من قصص الاعتداء والاغتصاب التي تعرضت لها فتيات القرى في تلك الفترة. وقد وثّق موظفو الأمم المتحدة العديد من الحالات، وذلك بعد أن أجروا مقابلات مع عدد من النساء اللاتي أبدين استعدادهن للحديث عما جرى لهن. تحدث شهود العيان عن الطريقة المهينة التي تعرضت لها النساء؛ إذ كنّ يُجرّدن من مصاغهن، ويتعرضن للمضايقات الجسدية، إلى جانب عمليات الاغتصاب في الطنطورة".
التاريخ يعيد نفسه، لكنه لا ينتظر سنوات للتوثيق، ولا خبراء يبدون آراءهم، إنما تعرضه الكاميرات الآن مباشرةً. لم يكن القتل، أو التدمير، أو النهب، أو الاغتصاب، أو تعذيب المعتقلين أفعالاً عابرة في سجل الجرائم الإسرائيلية، إنما هي منهجية يقوم عليها كيان كامل. ما يرتكبه الاحتلال الآن هو محاولة أيضاً لبث الذعر مستخدماً وسائل جديدة أهمها الإعلام.
ففي الوقت الذي يوثق فيه الإعلام هذا التاريخ، يستخدمه الاحتلال ليعيد إلى أذهاننا ملفات القرى التي دُرست بواسطتها القرى الفلسطينية، وجمعت معلومات كاملة وشاملة عنها منذ بداية العام 1940، بهدف الترتيب لعمليات كبيرة شملت الاغتصاب، والترويع، والاعتقال، والقتل.
تبع ذلك الخطتان ج و"دالِت"؛ إذ احتوتا أعمالاً تأديبية جماعية هدفها ردع السكان الفلسطينيين والهجوم على القرى الفلسطينية. واحتوت هاتان الخطتان على مبادئ أساسية هدفها إلحاق الضرر بكل المكونات الفلسطينية وطرد الفلسطينيين منهجياً، وكلياً. كان لهذه الخطط أثرها البالغ على ترويع السكان، ما اضطرهم إلى مغادرة قراهم. ونتج عن ذلك المنهج النكبة الفلسطينية الكبرى (1948). تتكرر هذه الخطط من جديد؛ إذ يستخدم جيش الاحتلال الآن الأداوات نفسها، لنشهدها حالياً عبر وسائل الإعلام في بث مباشر لإبادة جماعية تحدث منذ أكثر من خمسة أشهر، ما يجعل عمليات العقاب الجماعية تؤتي ثمارها على مدى واسع.
استخدم الاحتلال ماكينته الإعلامية بوضوح، من دون مراعاة للقوانين الدولية، ومن دون رادع لخطورة هذه الصور عليه، وذلك لأهداف تقوم على بث الذعر وترهيب السكان. وهذا في الحقيقة يعبر عن أيديولوجيا قديمة استحدثت نفسها وتعبّر عن نفسها بوسائل جديدة.
وبين التوثيق التاريخي وبث الرعب، يعيش قطاع غزة كارثته التي يمكننا تعريفها على أنّها تطهير عرقي ممنهج وأيديولوجي ليس وليد اللحظة، إنما هو ذاته ما عاشه الأجداد، وتوثقه كاميرا الأحفاد اليوم.