منذ بداية السينما، تقريباً، والجوائز المُواكبة لها آخذة في الازدياد والانتشار والتنوّع، خاصة في العقود القليلة المنصرمة. فبعد فوز أول فيلم روائي قصير صامت، "سرقة القطار الكبرى" (1903)، للأميركي إيدوين بورتر، بجائزة "المجلس الوطني لحماية السينما"، عام 1908؛ وبعد منح أولى الجوائز الأميركية والأوروبية في مجال السينما، أوائل عشرينيات القرن الـ20، بناءً على تصويت الجمهور؛ وبعد إطلاق "كأس موسوليني"، الممنوحة لأول مرة عام 1932 في "مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، كأول جائزة في مهرجان سينمائي دولي؛ بعد هذا كلّه، باتت هناك مئات الجوائز المُكرّسة لمختلف جوانب صناعة السينما، بلا مبالغة، بعد اقتصارها على الفيلم نفسه، أو على المخرج. وبعد أنْ كان تصويتُ الجمهور الأساسَ أو الفيصل، أُنيط التصويت بلجان تحكيم تتعدّد وتتنوّع وتتباين، وفقاً لاختلافات وحسابات وتوازنات لا حصر لها، مُعلنة وخفية.
أهمية في مقابل لغط
منذ بداية منح جوائز "أوسكار"، نهاية عشرينيات القرن الـ20؛ وانطلاق المهرجانات الدولية الكبرى في أنحاء مختلفة في العالم، ومنحها جوائز خاصة بها؛ وبعد إطلاق الجوائز الإقليمية أو القارّية أيضاً؛ وانتهاءً بالجوائز الخاصة بأنواع سينمائية معيّنة؛ واللغط المُصاحب لأغلب هذه الجوائز يتجدّد سنوياً، بغض النظر عن عراقة الجوائز، أو مدى أهميتها أو رفعة قيمتها، معنوياً أو أدبياً أو ثقافياً أو مادياً أو ترويجياً.
لغط الجوائز، على اختلافه، وبصرف النظر عن الجهات المانحة لها، بات في السنوات الأخيرة تحديداً -مع طغيان وسطوة المال والتجارة والسياسة، وتوغّل المصالح، والفساد في صناعة السينما والمهرجانات والمؤسّسات المعنيّة- من الأمور المواكبة لمنح أي جائزة، عريقة أو غير عريقة. لم يعد الأمر مقتصراً على اختلافات وتباينات في وجهات النظر والأذواق الفنيّة، إذْ تعدّى هذا كلّه إلى شُبهات وتوجّهات مُريبة، وإدانات دامغة، اختلط فيها، على نحو صارخ وفجّ أحياناً، الفني بالمادي والتجاري والسياسي والعرقي.
يُروّج البعض أنّ الفوز بجوائز سينمائية كبرى يعكس، بالتبعية، مستوى راقياً، فنياً وجمالياً وفكرياً وتجريبياً، للأعمال السينمائية الفائزة، وللأشخاص الحاصلين عليها، خاصة إنْ كانت الجائزة مرموقة. وبمعزل عن القيمة المادية والأدبية والمعنوية، يُمكن لجائزة أنْ تُحقّق لفيلم تقديراً هائلاً، وتقدّماً واتّساعاً لرقعة التوزيع، والانتشار الجغرافي العريض، والرفع من مكانة أصحاب الفيلم، مادياً ومعنوياً، وفتح آفاق غير مسبوقة للانخراط في مشاريع مستقبلية، أو تدفّقات تمويلية من جهات مختلفة. ناهيك عن تذليل عقبات وصعاب لا تُقدّر بثمن. أحياناً، ينطبق هذا في حال فوز أفراد أو فيلم بجوائز فرعية، كالتصوير والموسيقى والملابس والمؤثّرات الخاصة، وغيرها. هذا كلّه صحيحٌ إلى حدّ بعيد، ولا يُمكن إنكاره والتقليل منه.
لذا، لا يُمكن لأحدٍ أنْ يُشكِّك في أهمية الجوائز، ومردودها الثقافي والفني والأدبي والمادي، المتنوّع والمتفاوت، على الأفلام، كما على الصناعة وأربابها. طبعاً، هناك خلقها لحالة فنية مثيرة، ولنشاط واهتمام عبر محادثات ومناقشات وتغطيات إعلامية فنية ونقدية، والوقوف على التصوّرات العامة والأذواق السائدة، وبلورة آراء ووجهات نظر واتجاهات، وحتّى التأثير في توجّهات الصناعة نفسها. وربما تمتدّ آثارها إلى قياس آراء وأهواء وأمزجة وأذواق، اجتماعية وسياسية وعقائدية وإثنية وعرقية، لشعوب ومجتمعات متباينة. كما يُمكن للفوز بجائزة كـ"أوسكار" أنْ يبثّ الحياة مُجدّداً في عروض فيلم كان مجهولاً، أو لم يحظَ بتوزيع مناسب أو إقبال مُستهدف. الأمثلة على هذا كثيرة، خاصة في الآونة الأخيرة.
رغم الجوانب الكثيرة المُهمّة، والأدوار التي أسدتها الجوائز إلى جوانب عدّة في صناعة السينما، منذ نشأتها، فإنه من المُهمّ جداً مُلاحظة أنّ أهمية الجوائز الممنوحة في الصناعة، خاصة في السنوات الأخيرة التي اختلطت فيها الأمور أيما اختلاط، باتت خاضعة لأمور وعوامل ومتغيّرات كثيرة، تختلف من شخصٍ إلى آخر، ومن جائزة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، ومن فترة زمنية إلى أخرى.
كما يُلاحَظ كيف أنّ عملية الاختيار آخذة في التأثّر بعوامل كثيرة، إلى درجة التشوّش، إذْ طغت على الغرض والمضمون الفني الأصلي للجائزة، وحادت به صوب أغراض أخرى، غير فنية أساساً، تخدم سياسات ومصالح وأهواءً مُرتبطة بالصناعة، واستراتيجيات تسويق، وتحيّزات إلى نجوم ونجمات، وغير ذلك. هذا كلّه أثّر طبعاً في مستويات الأفلام الفائزة، وسيساهم، في النهاية، بالإضرار بالصناعة إجمالاً.
تساؤلات مشروعة
ربما يتّهم البعض الجوائز بالتحيّز إلى مخرجين وشركات إنتاج، أو بتجاهل أفلامٍ من ثقافات ودول معيّنة، والتأثير على الثقافة الشعبية، وتوجيه الأذواق السينمائية للجمهور، والتركيز على نوعٍ مُعيّن من أفلامٍ مُكرّسة لنمطٍ أو فكر أو توجّه مُطلوب، وذلك على حساب أنواع أخرى. هذا يؤثّر طبعاً في تمويل أفلامٍ أخرى، وعلى صناعتها وتوزيعها، وبالتالي على تنوّع المُنتَج السينمائي النهائي.
لكنْ، هناك أسئلة أساسية، مُلحّة ومفصليّة: من أكسب الآخر الأهمية والثقل والمصداقية والعراقة: الجوائز الممنوحة، أم الأعمال والشخصيات الفائزة بها؟ لماذا انقلبت الآية الآن، وصار الفوز بجائزة معياراً وصَكّ مصداقية لمخرج أو مخرجة أو فيلم، إلخ، لا العكس؟ لماذا لا يُؤخذ في الاعتبار أنّ ضعف أفلامٍ فائزة، أو مُجاملة شخصيات، أو فرض توجّهات، جرّاء التدخّل السافر للتجارة والمصالح والصوابية السياسية، يُساهم في تدمير الجوائز، ويُقوّض مصداقيتها المُكتسبة على مدى فترات زمنية غير قليلة؟
هذا رغم أنّ الجوائز نفسها، أو اللجان المانحة إياها، تظلمها الأفلام نفسها أحياناً. إذْ يتّفق، لأسباب كثيرة مُتفاوتة، أنْ تكون الإنتاجات السينمائية في تلك الفترة، أو ذاك العام، في هذه المسابقة أو ذلك المهرجان، ليست على المستوى المأمول، أو يعتريها ضعف، أو تَقَارب مستويات، أو انتفاءً للافتٍ أو جديدٍ أو فنّي. في النهاية، لا بُدّ من منح جوائز، إذْ يندر كثيراً، في تاريخ السينما، حَجبُ جائزة لأي سبب. المثير للانتباه أنّ سوء الاختيار والمنح هذا يحجب ويعوق ويسدّ الطريق على أفلامٍ ناجحة، أو مُؤثّرة، أو مُستحِقّة التقدير أو الجوائز، لكنْ صادَفَها حظٌّ عاثر، أو ضعف تسويق أو ترويج أو برمجة، أو عندما يقف جهلٌ باسم وهوية مخرج أو مخرجة، أو غيرها من الأمور، حائلاً دون الفوز. وذلك على عكس ما كان يحدث سابقاً، إذْ أنصفت الجوائز، بمنتهى الجرأة، أسماء باتت لامعة، ولفتت الأنظار إلى سينمات بلدان، وموجات فنية، وفنانين وفنانات.
من هنا، يبرز الدور المُهمّ والمؤثّر والخطر والمنشود، بقوّة، لآراء نقّاد صادقين ومخلصين للمهنة، خاصة في هذه الأيام التي اختلطت فيها الأمور بشدّة، نظراً إلى قدرتهم، على عكس أعضاء لجان تحكيم الجوائز عادة، على الحكم بحياد ونزاهة وتحرّر من الضغوط إلى حدّ كبير، وتقييم الأعمال بمعزل عن أهواء أو مجاملات أو حسابات ربح وخسارة. على هؤلاء غربلة الجوائز، وإعادة النصاب إلى الأفلام المُستحِقّة للاهتمام، بصرف النظر عن طبيعة الجوائز الممنوحة. وذلك، رغم حقيقة أنّ الجوائز تخلق ضغوطاً على النقّاد وتدفعهم، أحياناً، إلى تقييم الأفلام بشكل تجاري أكثر، أو مُتسرّع، أو أنْ يكونوا عُرضة للتأثيرات السائدة، إيجاباً أو سلباً. عليه، هناك ضرورة أنْ تكون العلاقة تكاملية أساساً، لا علاقة تبعية، أو مُجرّد مُواكبة لأغراضٍ مهنية، أو غيرها.
أخيراً، ومن ناحية تاريخية بحتة، تلعب الجوائز، وتاريخها الزمني التسلسلي، دوراً مؤثّراً للغاية، من دون قصد طبعاً، يتجلّى بشدّة عند الرجوع إلى أرشيفات جائزة ما، واستعراض نتائجها منذ انطلاقها، أو على مدى عقودها الأخيرة. الأهمية نابعة من تبيان مراحل الصعود والهبوط، والتألّق والتفاوت، والتضارب والإخفاق، التي مرتّ بها الجائزة نفسها في تاريخها؛ وتبيان أهمّ المحطات الفنية والمستويات السينمائية، وأهم الأسماء التي سلطت عليها الجائزة الأضواء، أو اكتشفتها، والعناوين التي أبرزتها وقدّمتها. أهمية مُفيدة من دون شكّ للمُؤرّخين والباحثين والهواة، وللمهتمّين بالوقوف على مصداقية جائزة وأهميتها، وتقييم المستوى الفني السينمائي، بمختلف جوانبه، في فترة أو فترات زمنية معيّنة.
جوائز الأفلام مُتعدّدة الأوجه، وذات قيمة كبيرة لصناعة السينما، من حيث الاعتراف والوصول إلى الجمهور والتأثير الثقافي. مع ذلك، مُهمّ دائماً إدراك حدودها وطبيعتها. والأهمّ، ألا يغيب عنّا السياق والظروف المحيطة، باختلافاتها، وكيف أنّها، في النهاية، لا تُحدّد أبداً القيمة المُطلقة لفيلم أو فنان، ولا تكسبهما أي مصداقية أو فنيّة ليست لهما. كما ينبغي ألا تكون الجائزة المقياس الوحيد لقيمة مخرج أو مخرجة أو ممثل أو ممثلة، أو أي عامل في أي مهنة في الصناعة.