بمجرّد التفكير في سؤال الجوائز السينمائية العربية التي تمنحها مؤسّسات ومهرجانات وجمعيات، يتبادر إلى الذهن معنى السينما أصلاً، في عالمٍ عربيّ مُتصدّع، يُعتَبر فيه أيّ شخص يحمل كاميرا، ويُجيد تقطيع الصُوَر وتلصيقها، مخرجاً سينمائياً. هذا في وقتٍ لم تُحقّق فيه أفلام عربيّة عدّة أيّ حداثة بصريّة تُذكر.
في العالم العربي، هناك آلاف الأفلام المُنتجة سنوياً. لكنّها مجرّد أفلام تُشَاهَد وتُنسى، كأنّها لم تكُن يوماً. السينما الحقيقية صُوَرٌ تُدين فداحة الواقع، وتنتقد كلّ شيء، وتُحاول ـ مع النصّ والإكسسوار والإضاءة والأداء والموسيقى وغيرها ـ أنْ تقبض على فيزيونومية الواقع، بشكلٍ متخيّل. الجدل شيءٌ مُهمّ في السينما، لأنّه يجعل الناس والمؤسّسات ينتبهون إلى ما يقوم به المخرج في المجتمع، من تفكيكٍ للبداهة، ونقد للمكبوت. فوظيفته فكريةٌ أكثر من كونها سينمائية، وهو لا يُعالج شيئاً، بل يطرح سؤالاً تلو سؤال، والسؤال شرطٌ أساسي لكلّ كتابة سينمائية صحيحة، وإلًا ما الغرض منها أصلاً؟
حين يُشاهد المرء أفلام جان ـ لوك غودار وفرنسوا تروفو وكوينتين تارانتينو ومارتن سكورسيزي، يجد نفسه أمام مفكّرين فطاحل، يتجاوزون قلاع الإخراج، فتُصبح أعمالهم كأنّها ضربٌ من التفكير الفلسفي المُدهش، المبني على أحداثٍ واقعية، تغدو في السينما بمثابة تفكير مجرّد.
هذا لا يوجد إطلاقاً في سينما العالم العربي، التي تبدو كأنّها صورة مُصغّرة عن واقع سياسي عفن. السينما فنّ بصريّ، ينبني على رؤية تفكيكية عميقة للواقع. بيد أنّ السينما العربيّة، حين تهتمّ بالواقع، تبدو كأنّها تُترجمه إلى صُوَر لا أكثر، بل إنّها تسعى جاهدة إلى محاكاته بطريقة آلية، سواء عن طريق الحكاية الأصل، أو قصصها المتفرّعة من الحكاية الأصل. هذا جعل السينما، تاريخياً، تُعتبر أخطر الوسائط البصريّة، القادرة على التأثير في القوانين والعقليات والمجتمعات والأنظمة وغيرها، لأنّها تستطيع إظهار ما لا تستطيع الفوتوغرافيا مثلاً إبرازه للمُشاهد. إنّها فنّ سردي ينثر القصص والحكايات، ويختلف بشكل كامل عن فنون بصريّة أخرى. فنّ حركي يتجوّل وحيداً في الفضاءات المتنوّعة والأزمنة المختلفة، عبر آلية بصريّة زئبقية ضاربة في الترحال، وممتدّة عبر مفهوم الزمن نفسه.
معنوياً، تلعب الجوائز دوراً نهمّاً في شحذ وجدان طاقم الفيلم، كاعتراف ضمني بما قدّموه من اجتهاد في صنعه. لكنّ الأخطر أنْ تتحوّل الجوائز إلى ما يُشبه بطاقة هوية بصريّة عن نجاح الفيلم ومخرجه. هناك جوائز كثيرة، كـ"أوسكار" و"سيزار"، مُنحت لأفلامٍ غربيّة، لم تكُن موفّقة في الاختيار. ما يعني أنّنا أمام عملية مُركّبة، تتحكّم فيها دوافع سياسية وتجارية وذاتية ومعرفية وجماليّة. هناك جوائز مُنحت لأفلامٍ بسبب حدّتها السياسية، وأخرى لقُدرتها المذهلة على تعرية الواقع، وكشف تصدّعات المجتمع، بينما حظيت أفلامٌ بجوائز بسبب قيمتها الجمالية، المُفرطة في المزج بين الأساليب الفيلمية، وابتكار شكلٍ سينمائي جديد.
الجوائز السينمائية، الممنوحة هنا وهناك في العالم العربي، لا قيمة لها إطلاقاً. إنّها مجرّد منح تُعطى لأشخاصٍ، وغالبيتها محكومة بعقليات المؤسّسات التي تُنظم المهرجانات وفريقها. كما أنّ هذه الجوائز غير مبنيّة، أحياناً، على أيّ اعتبار علميّ، يتجاوز أحياناً السينمائيّ لصالحٍ أبعادٍ فكرية تفكيكية، تُموضع العمل السينمائي في صلب الواقع اليومي وتحوّلاته. كما أنّ غالبية لجان التحكيم عبارة عن مخرجين وممثلين، ويندر العثور على ناقدٍ سينمائي بينهم. اختيارٌ كهذا نابع من جهل مُخجل، تعتبر فيه جهاتٌ الناقدَ معنيّ بالصحافة، وبالتالي تكمن وظيفته في الكتابة عن الأفلام والترويج لها لصالح المهرجان، ومؤسّسة الإنتاج. أمرٌ كهذا بات اليوم، في العالم العربي، تحصيلَ حاصل، لا أحد يستطيع أنْ يُفكّر به، أو ينتقده.
للناقد دورٌ أساسي لا في اختيار الأفلام وترشيحها لمسابقة رسمية أو غيرها، بل قيمته كامنةٌ في اختيار أفضل الأفلام، وإنْ كان مفهوم الـ"اختيار" نفسه قابلاً لتحليل عينيّ، وتأمّل فلسفي، لأنّه (الاختيار) مرتبطٌ بمفهوم "التمثّل". وبالتالي، ما يكون جميلاً بالنسبة إلى ناقدٍ، يجد فيه المخرج عكس ذلك تماماً. يتوفّر الناقد المجتهد على إمكانات معرفية، تتّصل بسياقات تاريخية، وبراديغمات فكرية، ومفاهيم جمالية، تدفعه إلى التفكير والتأمّل في الأفلام، وما إذا كانت تستحقّ جوائز أم لا.
الجوائز السينمائية، "الناجحة" في اختياراتها، تمزج لجانُ تحكيمها بين التمثيل والنقد والإخراج والمونتاج والموسيقى، وإنْ كان كلّ تخصّص فني يُؤثّر على عملية الاختيار. لكنّ الناقد يبدو، في هذه الحالة، محايداً، لا تحكمه نوازع ذاتية مُرتبطة بالتكوين، بقدر ما تقوده ذائقته المبنيّة على الانفتاح إلى إطلاق حكم جمالي عام.
في السينما الغربيّة، مآزق كثيرة تُعانيها في علاقتها بالجوائز، إذْ يحكمها السياسيّ المحض، وأحياناً الأبعاد الترفيهية. كما أنّ الأفلام التي تحظى بجدلٍ في المجتمع، تُعتَبر أكثر الأفلام التي تحصل على جوائز. لكنْ، ما يثير الدهشة في "أوسكار" مثلاً، أنّ كلّ سنةٍ، تتخطّى المفاجآت كلّ متوقّع. هذا الأخير، تتحكّم فيه دوافع يجهلها المتفرّج العادي، وأحياناً الناقد الخبير نفسه. السينما الحقيقية في العالم العربي، لا تحصل دائماً على جوائز، علماً أنّ مخرجيها لا يهتمّون بها إطلاقاً، بل أنّ المخرج ربما لا يُوافق حتّى على ترشيح عمله، أو على الأقلّ عرضه في فئة ما من فئاته، لأنّه مغضوبٌ عليها من مجتمعها، ومؤسّساته السياسية القمعية. هذا النوع من السينما أكبر من الجوائز، مهما بلغت قيمتها الرمزية والمالية، لأنّها سينما تقيم في المستقبل، ولا تحتكم إلى اعتراف اللحظة ومباهجها.
أمرٌ آخر يُلاحَظ على هذه السينما: غياب الاعتراف بالفيلم الوثائقي من جوائزها المالية. إلى وقتٍ قريب، ظلّت المهرجانات تتعامل مع هذا النوع من الأفلام بجفاء، كأنّه جنس سينمائي لا يستحقّ المُشاهدة. في وقتٍ يبذل فيه مخرجون ومخرجات دوراً بارزاً في صناعته ومتخيّله وجمالياته. بل أنّ وثائقيات عربيّة كثيرة رُشِّحت لأكبر الجوائز العالمية، أمام غياب أفلامٍ روائية مُكرّسة. الوثائقي يحتاج إلى وقتٍ أطول لصناعته، إذْ يعمل المخرج ـ المخرجة على تتبع مسارات الشخصيات، ومرافقتها في الفجيعة والألم، بطريقة تجعله يلج إلى ذاتية هذه الشخصيات، ويستنطق مكبوتها. إنّها عملية صعبة، يُراد بها تحقيق بوحٍ ذاتي يُتيح للفيلم الوثائقي، بشكلٍ مُضمر عن طريق الحكاية لا الصورة، البحث عن جماليّات جديدة مُبتكرة.