استغلت السلطات الروسية المنصات الافتراضية، وتحديداً "فيسبوك"، في الأزمة الأوكرانية، ووصل هذا الاستغلال إلى ذروته في الفترة التي سبقت هجومها العسكري الذي شنته فجر الخميس، ليجد عمالقة التواصل الاجتماعي أنفسهم في قلب الصراع السياسي والعسكري، فاندفعوا إلى اتخاذ قرارات تأخرت سنوات، لكبح التضليل وانتشار الأخبار الزائفة وخطاب الكراهية والعنف.
وأعلنت شركة "فيسبوك"، السبت، أنها قررت منع وسائل الإعلام الرسمية الروسية من نشر إعلانات أو ممارسة أنشطة تدرّ عائدات على منصتها في أي مكان في العالم. وغرّد رئيس السياسة الأمنية في الشركة ناثانيال غلايشر: "نواصل أيضاً وضع محاذير على وسائل إعلام رسمية روسية إضافية... بدأنا بتطبيق هذه التغييرات بالفعل، وستستمر حتى مطلع الأسبوع. نحن نمنع الآن وسائل الإعلام الحكومية الروسية من نشر إعلانات أو ممارسة أنشطة تدرّ عائدات على منصتنا في أي مكان حول العالم".
وتأتي خطوة "فيسبوك" بعد قرار السلطات الروسية، الجمعة، فرض "قيود على الوصول" إلى موقع "فيسبوك" في البلاد، رداً على "رقابة" يمارسها عملاق التواصل الاجتماعي على وسائل إعلام روسية و"انتهاكه" حقوق المواطنين وحرياتهم.
"فيسبوك" تمنع وسائل الإعلام الرسمية الروسية من نشر إعلانات أو ممارسة أنشطة تدر عائدات على منصتها
وأفادت الهيئة الفيدرالية للرقابة في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات "روسكومنادزور"، في بيان، بأنها فرضت إجراءات لـ"تقييد الوصول" إلى "فيسبوك" اعتباراً من 25 فبراير/شباط الحالي، من دون تحديد طبيعة هذه القيود ونطاقها. واتهمت موقع "فيسبوك" بـ"التورط في انتهاك حقوق الإنسان والحريات الأساسية"، لتقييده الحسابات الرسمية لأربع منصات إعلامية روسية، وهي قناة "زفيزدا" المرتبطة بوزارة الدفاع ووكالة الأنباء العامة "ريا نوفوستي" وموقعا "لينتا" و"غازيتا" الإخباريان.
ولفتت إلى أنها طلبت من إدارة "ميتا"، الشركة الأمّ لـ"فيسبوك"، رفع هذه القيود وشرح أسباب فرضها، لكن طلباتها "قوبلت بالتجاهل". وأكّدت رصدها 23 "حالة رقابة" فرضها "فيسبوك" على وسائل إعلام ومحتويات روسية على شبكة الإنترنت منذ أكتوبر/تشرين الأول عام 2020. ولم تذكر "روسكومنادزور" ما إذا كان قرارها سيقيد الوصول جزئياً إلى تطبيقي "إنستغرام" و"واتساب" اللذين تملكهما "فيسبوك" أيضاً.
موسكو تتهم "فيسبوك" بـ"التورط في انتهاك حقوق الإنسان والحريات الأساسية"، لتقييده الحسابات الرسمية لأربع منصات إعلامية روسية
وردّاً على القرار الروسي، قال رئيس الشؤون العالمية في شركة "فيسبوك" نيك كليغ، الجمعة، إن موسكو قيّدت الوصول إلى "فيسبوك" وبقية شبكات التواصل الاجتماعي التابعة للمجموعة، بعد رفضها الاستجابة لطلب السلطات الروسية وقف عمليات "تقصّي الحقائق" عبر "فيسبوك"، للتحقق من صحة الأخبار التي تنشرها وسائل الإعلام الروسية المذكورة.
وأوضح كليغ أن طرفاً ثالثاً مستقلاً، مكلّفاً من "فيسبوك" إجراء عمليات التدقيق في صحّة الأخبار، وجد في مقالات أو تسجيلات فيديو نشرتها وسائل الإعلام الروسية هذه معلومات مشكوكاً فيها، فأبلغ عنها كالعادة. وأضاف: "أمرتنا السلطات الروسية الخميس بوقف عملية تقصّي الحقائق والإبلاغ عن محتوى نشرته أربع وسائل إعلام روسية تسيطر عليها الدولة. رفضنا. ونتيجة لذلك، أعلنوا أنّهم سيقيّدون الوصول إلى خدماتنا".
كذلك اتهمت الهيئة الروسية، السبت، عشر مؤسسات إعلامية محلية بتقديم معلومات مغلوطة عمّا تصفها موسكو بأنها عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا، بينها إذاعة "إيكو موسكفي" وصحيفة "نوفايا غازيتا" التي فاز رئيس تحريرها دميتري موراتوف بجائزة نوبل للسلام العام الماضي. وأمرت الهيئة وسائل الإعلام بحذف المعلومات المسيئة، وإلا فستحظر مواقعها الإلكترونية ومصادرها الإعلامية.
في سياق متصل، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات، الأربعاء، على رئيسة قسم اللغة الإنكليزية في شبكة "آر تي" (روسيا اليوم) مارغريتا سيمونيان، وعلى رجل الأعمال يفغيني بريغوزين و"وكالة أبحاث الإنترنت" التي يمولها. الاستخبارات الأميركية وصفت هذه الوكالة سابقاً بأنّها "لجان إلكترونية لتوجيه الرأي العام" ذات صلة بالحكومة الروسية، في إطار تحقيقاتها بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية التي أدت إلى فوز الجمهوري دونالد ترامب عام 2016.
كانت وسائل الإعلام المدعومة من موسكو قد نشرت أخيراً تقارير زائفة عبر "فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب" و"تيك توك" بشأن الأزمة الأوكرانية، بينها الادعاء أنّ الجيش الأوكراني ارتكب هجمات غير مبررة على القوات المتحالفة مع روسيا، والإشارة إلى أنّ دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) ستنفذ هجمات بالأسلحة الكيميائية في جمهوريات أوكرانيا الانفصالية لتشويه سمعة روسيا. وجمعت هذه التقارير الملايين من علامات الإعجاب (like) والتعليقات والمشاركات، وفقاً لأداة تحليل الوسائط الاجتماعية "كراودتانغل" CrowdTangle المملوكة لـ"فيسبوك". وانتشرت الأكاذيب أيضاً على منصات أصغر، مثل خدمة الرسائل المشفرة "تيليغرام"، حيث تشارك القنوات الروسية والأوكرانية روتينياً الادعاءات الزائفة.
وقال مسؤول كبير في الاتحاد الأوروبي لموقع "بوليتيكو" الإخباري، الخميس، بشرط عدم الكشف عن هويته، إنّ هناك مستوىً "مذهلاً" من التنسيق بين شبكات التضليل التابعة للكرملين ووسائل الإعلام الحكومية الروسية، بما في ذلك نشر الدعاية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
إلى ذلك، أعلنت "فيسبوك"، الخميس، تأسيس مركز عمليات خاص لمتابعة الصراع في أوكرانيا وإطلاق ميزة تمكن المستخدمين في ذلك البلد من إغلاق ملفاتهم الشخصية على موقعها ضماناً لأمنهم. ونشرت شركة "تويتر"، الأربعاء، نصائح عن كيفية تأمين المستخدمين لحساباتهم من القرصنة والتأكد من خصوصية تغريداتهم ووقف تنشيط حساباتهم. أما "غوغل"، فأعلنت الجمعة أنها فعّلت تلقائياً زيادة أمان الحسابات الشخصية في أوكرانيا، ومنعت الإعلانات التي تسعى لاستغلال التوتر بين روسيا وأوكرانيا، وحذفت مئات القنوات وآلاف مقاطع الفيديو من منصتها "يوتيوب" على مدار الأيام القليلة الماضية.
وعلى الرغم من هذا الاندفاع الذي تبديه "فيسبوك" لحماية "الحقيقة" ومستخدميها من الأوكرانيين في أعقاب الغزو الروسي، لكن الواقع مختلف. إذ صنفت الشركة في وثيقة غير مؤرخة ومُسربة، عنوانها "تحديد أولويات الدولة لعام 2021"، البلدان من المستوى الـ 1 إلى المستوى الـ 3، لجهة نوع الإشراف الداخلي على المحتوى والمراقبة المقدمة من قبلها لحماية المستخدمين المحليين. وفيما كانت روسيا في أعلى القائمة، لم تظهر أوكرانيا في أيٍّ من المستويات.
وفي السياق نفسه، قالت مسربة الوثائق فرانسيس هاوغين أمام المشرعين في أيرلندا، الأربعاء، إن على "فيسبوك" التوقف عن تنظيم مستخدميه في قطعان متشابهة التفكير، لأن موسكو تستغل هذا التكتيك، الرامي إلى زيادة الأرباح، في تأجيج الانقسام في أوكرانيا وإضعاف الديمقراطيات حول العالم.
وثيقة مسربة من "فيسبوك" كشفت تقاعسه عن حماية المستخدمين الأوكرانيين
هذا التوجه الروسي بدأ منذ سنوات، وتحديداً بعد الثورة الأوكرانية عام 2014، حين خُلع الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش، وبدأت الجمهورية السوفييتية السابقة في الميل نحو الغرب. وصفت موسكو حكومة ما بعد الثورة بـ"المجلس العسكري الفاشي"، ثم انتهز الروس كل فرصة لتصوير الحكومة الأوكرانية أنها من دعاة كره الأجانب والعنصرية ومعاداة السامية خصوصاً. اليهود لم يكونوا على رأس أولويات الروس أو الأوكرانيين، لكن عبر تحديد بوتين أعداءه أنهم كارهون لليهود، تمكن من تصوير القادة الأوكرانيين أنّهم فاشيون.
وبدءاً بإقرار ما سُميت قوانين اجتثاث الشيوعية في البلاد عام 2015، بدأ الأوكرانيون بفصل أنفسهم عن كلّ ماضيهم السوفييتي. ورفعوا الشخصيات الفاشية والمعادية للسامية، مثل ستيبان بانديرا، إلى مستوى الأبطال الوطنيين. وشرعوا في تسمية شوارع البلاد على اسم هؤلاء المعادين للسامية والأعضاء الباقين على قيد الحياة من هذه الحركات القومية المتطرفة. وروسيا كانت في المرصاد، فأطلقت جهودها لخلق انطباع بأن قيادة أوكرانيا ما بعد الثورة كانت مستمرة في النهج العنصري والعنيف نفسه لبانديرا. هذا كله منذ عام 2014، وبكثافة على منصات التواصل، وعلى رأسها "فيسبوك" التي تزعم الآن حماية الأوكرانيين الذين لم يكونوا أصلاً في قائمة حساباتها.