في الساعات الأولى من صباح الاثنين الماضي، تواترت الأنباء، وملأت مواقع التواصل الاجتماعي: مات الريّس زكريا إبراهيم، الذي اشتهر في العقود الثلاثة الفائتة بأنه مؤسِّس فرقة الطنبورة البورسعيدية، ومثّل لسنوات طويلة حالة استثنائية في المشهد الفني والثقافي المصري. حالة عنوانها الدأب والإصرار والاستمرارية وبذل الجهد المتواصل والمتراكم من أجل إحياء التراث الغنائي الشعبي في مدن القناة، متمثلاً في أغاني السمسمية وعزفها ورقصاتها. ذلك الفن الذي أدركه زكريا إبراهيم قبيل اللحظة الأخيرة من إعلان انقراضه، فقرر أن يهب عمره كله لإحيائه ونشره وتعليمه.
بدأ وحيداً، ولم يكفّ يوماً عن العمل، حتى أثمرت الأشجار التي غرسها، عشرات العازفين والراقصين والمغنين، وبسببه اتسع جمهور السمسمية في مدن القناة، وخارجها، وانتظمت عروضها في العاصمة القاهرة، قبل أن تنهال الدعوات على زكريا وفرقته لتقديم عروضه على أهمّ مسارح العالم. الرحيل المفاجئ لشيخ الطنبورة خلّف حالة عميقة من الحزن، انعكست في طوفان من كلمات الرثاء التي سطّرها عدد كبير من الباحثين والكتّاب والصحافيين وتلامذة الفقيد. وأكد كثير منهم في تصريحات لـ"العربي الجديد" فداحة الخسارة، وعزاءً وحيداً، يتمثل في بقاء الفكرة التي زرعها الراحل الفريد.
الفنان أحمد العشري، واحد ممن تعلموا على يد الريّس زكريا إبراهيم، يروي قصته مع فقيد بورسعيد، ويقول: "تعرفت إليه وأنا طفل عمره 10 سنوات. أتذكر حالة الاحترام والتقدير الشديد التي كان يبديها جميع أعضاء الفرقة تجاهه. حين رآني، هزّ لي رأسه مداعباً، وعرّفني والدي الفنان محسن العشري إليه، قائلاً: ده أحمد ابني اللي هيتعلم السمسمية في أسبوع. وكان الريّس يجهز لفيلم تسجيلي عن "الطنبورة"، وكان مطلوباً للعمل عازف سمسمية طفل يظهر في آخر الفيلم باعتباره امتداداً لكل عازفي السمسمية الكبار وإشارة إلى جيل جديد سيتسلّم الراية من القدماء. ولم يكن قد بقي على التصوير إلا 3 أيام، ووقع اختيار الريس عليّ، وبالفعل تدربت على العزف وصورت، بتشجيع كبير جداً منه. كان يدير كوكبة من النجوم، باختلاف أعمارهم وميولهم الفنية عزفاً أو غناءً أو رقصاً. كان جزءاً من ذاكرتنا وهويتنا".
يتحدث أحمد العشري عن دور الريّس زكريا مع والده عازف السمسمية الأشهر محسن العشري، الذي كان قد اعتزل الفن، رفضاً للصورة المبتذلة والتجارية التي كان يُعرض بها. يقول أحمد: "استطاع الريّس زكريا أن يقنع والدي بالعودة إلى العزف، بعد أن أوجد له النموذج الذي يتمناه متمثلاً في فرقة الطنبورة، المكونة من عدد من عشاق السمسمية، الذين يحبونها لذاتها. مع زكريا إبراهيم، ارتاد محسن العشري آفاقاً رحبة، وقدم بآلته أرقى ما يمكن أن يصل إليه عازف".
تواطأت كلمات الرثاء والتأبين من شباب الطنبورة على محورية الدور الذي لعبه زكريا إبراهيم، ولا سيما جهوده المتواصلة في رعاية المواهب، والأخذ بأيديهم إلى مراحل الإتقان والتألق بين الجماهير وعلى المسارح. يقول عضو الفرقة كريم رجب: "فقدنا هرم التراث الشعبي في بورسعيد ومدن القنال، ومصر كلها".
يضيف: "وعيت على الدنيا، وجدته أمامي، الكل يحبه ويحترمه. كنت أحضر الحفلات والبروفات مع والدي. وفي عام 2005، كانت خطوته الكبيرة بإنشاء مدرسة لتعليم السمسمية للأطفال، باسم براعم الطنبورة، وضمني إليها لأنه كان يراني وأنا أرقص. وفّر للمدرسة مكاناً داخل النادي المصري، وبدأنا نتعلم الرقص، وعيَّن مشرفاً على المدرسة، هو محسن العشري. كنا نتدرب كل جمعة. نتعلم الفرق بين أغاني السمسمية وأغاني الضمة، أنواع الإيقاعات: المقسوم، السويسي، الجداوي، رقص البمبوطية، ونتعلم من أين جاءت ونشأت".
يتابع: "بعد وفاة والدي الفنان الشيخ رجب، لم أقدر على الاستمرار، لكن الريّس زكريا جاءني بنفسه، هو والفنان علي عوف، وأقنعني بإكمال مسيرة الوالد داخل الفرقة الكبيرة. هذه المدرسة خرّجت مجموعة من الشباب، أنشأوا فرقة "صحبة" التي يديرها أحمد عشري، ابن محسن العشري. كل هذا كان تحت رعاية الريّس زكريا. المدرسة أخرجت جيلين. كلنا أعضاء في الطنبورة، وكلنا في الفرقة الجديدة، وهناك جيل جديد قمنا نحن بتدريبه".
لم تقتصر جهود زكريا إبراهيم الإحيائية على مسقط رأسه، أي مدينة بورسعيد، ولكنه وجه قدراً كبيراً من طاقته إلى كل مدن القناة. ومن جهوده البارزة في هذا الجانب، دوره المهم في إحياء فرقة "الوزيري"، أهم فرق السمسمية في مدينة الإسماعيلية. كانت الفرقة قد تبعثرت، بعد رحيل عدد من كبار أعضائها، واعتزال الباقين.
تحرك زكريا إلى الإسماعيلية في مهمة إنقاذ، يلخصها الحاج عبد العال سلامة، ريّس فرقة الوزيري، قائلاً: "جاء الريس زكريا إلى الإسماعيلية عام 1994، وبحث عن القدماء من فناني السمسمية، وقابل الحاج محمد الوزيري، وطلب منه البحث عن الفنانين الذين يحبون الفن للفن، لا للكسب المادي، ولا يقبلون بممارسات الأفراح. وبدأت الفرقة تعود من جديد بعد أن انتهى الفن فعلياً في الإسماعيلية، كان اسمها فرقة الإسماعيلية للحفاظ على التراث، وهو الذي سماها "الوزيري".
يضيف: "بعد رحيل محمد الوزيري، قرر الريّس زكريا اختياري لأكون الريّس. وطول السنوات الماضية قدمنا عروضاً في الشوارع وأماكن كثيرة، إلى أن ثبت عرضنا على مقهى أبو صباع، في منطقة منشية الشهداء". يضيف الريس عبد العال: "فن السمسمية كان قد انقرض فعلياً في الإسماعيلية، ولولا الريس زكريا لاندثر إلى الأبد".
حين عاد زكريا إبراهيم إلى بورسعيد بعد سنوات التهجير التي فرضتها الحروب، وجد أن السمسمية التجارية هي المهيمنة، حيث لا يمكن لفنان أن يندمج في تلك الحالة الروحانية التي تمنحها أغاني السمسمية ورقصاتها، بسبب المقاطعة المتكررة من رواد الأفراح، ومن "دافعي النقطة". أُصيب بصدمة كبيرة، لكنه قرر ألّا يستسلم، وبدأ رحلة النحت في الصخر، والبحث المضني عمّن بقي من الرواد القدماء، الذين يحفظون وحدهم كلمات أغاني الضمة، وفي مقدمتهم الريّس إمبابي، الذي وصفه زكريا بالموسوعة، وبأنه كان يتمتع بقدرة تعليمية وتربوية كبيرة.
استطاع الريّس زكريا أن يقنع عدداً من أهم "المعتزلين" ليبدأ بهم فرقته المنتظرة. بعد فترة طويلة، قدّرته مؤسسات غربية ووفرت له التمويل، لكنه قبل ذلك ظل لأكثر من خمس سنوات يموّل نشاطه من جهده الخاص. ربما نسي كثير ممن يشاهدون حفلاته الكبيرة أن الرجل استقال من وظيفته الحكومية كي يتفرغ لإحياء التراث الشعبي، وأنه في مرحلة من مراحل "الطنبورة" فتح ورشة صغيرة لإصلاح الأحذية، كي ينفق منها على نشاطه. كان الرجل يقف بنفسه في الورشة لإصلاح الأحذية القديمة، أو يقف في السوق لبيع الأسماك. فلما جاءه التمويل لم يسلم من الاتهامات المصاحبة لكل تمويل أجنبي.
ترى الباحثة الموسيقية سمر محمد سلمان أن زكريا إبراهيم ظهر في فترة اجتياح ثقافي، وضياع للخصوصية، التي تمثل الفنون المحلية أهم تجلياتها، لأنها تشكل بصمتنا الخاصة وأثرنا المميز في التاريخ الإنساني. تقول: "من الصعب الحديث عن الريّس زكريا بعيداً عن تراجيديا بورسعيد، هذه المدينة التي ألهمت طلاب التحرر في العالم ثواراً وكتاباً وشعراء من أفريقيا إلى آسيا إلى أعالي جبال الأنديز في أميركا اللاتينية. وبعيداً عن قصة التهجير، ما أعنيه بالتراجيديا، تحول المدينة من رمز أممي للمقاومة إلى "سوق حرة"، وأعتقد أن هذه المأساة كانت حاضرة في عقل زكريا إبراهيم وروحه، فكما آلمه التهجير وضياع المدينة، فقد آلمه أكثر تشويه المعنى وضياع الرمزية الوطنية بعد الانفتاح وما أحدثه من تحولات كبيرة في المجتمع المصري، واجهها الرجل عبر إحياء فن السمسمية، الذي كاد يندثر، وتأصيله وتقديمه بصيغته التراثية من دون التخلي عن احتمالات التجديد".
تضيف سمر سلمان: "حتى الأداء الحركي المصاحب والرقصات المنتمية إلى هذه المدينة الجميلة لم تكن مجرد محاولة لإضفاء البهجة أو الحيوية على الأغنيات، بل تختزل كثيراً من طبيعة هذه المدينة وثقافتها وروحها وملامح الشخصية البورسعيدية التي تحاول المقاومة بالفرح والتعبير عن الحزن والشجن والشوق والترحال والهجر والتهجير بالرقص، وليس بالبكاء. هي انتفاضة روح وثابة على الألم، أو هي فلامنكو مصري على نحو ما".
أسس زكريا إبراهيم فرقة "الطنبورة" عام 1989، ومعه ظلت تُرسّخ مكانتها كل يوم، في بورسعيد أولاً، ثم في مدن القناة، ثم في القاهرة والإسكندرية والمحافظات، ثم خارج مصر في كثير من المهرجانات الدولية. لكن الرجل، بعد أن اطمئن إلى وقوف فنّ الضمة والسمسمية على قدم راسخة، اتجه إلى أنماط أخرى من الغناء الشعبي، وأنشأ مركز "المصطبة" لرعاية هذه الأنماط، كذلك أنشأ مسرح الضمة بمنطقة عابدين وسط القاهرة، لتعرض عليه الفرق الغنائية الشعبية والفلكلورية، فن الكف، الزار، الغناء البدوي، الإنشاد الديني الشعبي، وغير ذلك كثير. صار أباً روحياً للغناء الشعبي المهدد بالانقراض، وبذل جهوداً كبيرة ليوضح رسالته، ودُعي لإلقاء المحاضرات عن السمسمية والضمة والتراث في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وفي جامعة مينوركا الإسبانية، وجامعة السوربون الفرنسية.
المطربة والباحثة فيروز كراوية، تشارك زكريا إبراهيم في الانتماء إلى مدينة بورسعيد. تقول: "ما فعله الريّس زكريا يُعَدّ تجربة غير مسبوقة في التعامل مع تراث مدينة كان قد قارب على الاندثار. بقاؤه مرهون بذاكرة الحفاظ والعازفين والراقصين القليلين الذين يكبرون في السن. وهو خروج عن التفكير التقليدي في جمع التراث وحفظه".
تضيف: "الإحياء لتراث السمسمية في بورسعيد كان إحياءً للاوعي المدينة التي تبتعد زمانياً عن ظروف نشأتها، وانتزاع تراث موسيقي غاب عن أجيال متعددة ليستنبته في الحاضر، طقساً وحفلاً ورقصاً. لم تغب عنه أهمية التوثيق، ولا المؤسسية التي سعى في طريقها مؤسساً لمركز ثابت للموسيقى الشعبية المصرية، "المصطبة" في حيّ عابدين القاهري. ولم يذب في الدوائر الثقافية القاهرية التي تعاون معها، صانعاً من السمسمية حالة إكزوتيكية تشبع ميول باحثين عن الصيحات، بل حرص على استدعاء الموسيقى بين ناسها أسبوعياً وشهرياً، مرتحلاً بين المحافظات المصرية أو مهرجانات العالم، ثم إياباً إلى بورسعيد وبورفؤاد".
تتابع كراوية: "مع زكريا إبراهيم كبرت أجيال، وانضمت إلى الفنّ الرجالي البنات والسيدات، وانجذب الأطفال إلى مدرسة الآلة التي أسسها. تراث نشأ بين انتقال صيادي السواحل إلى طابع التبادل التجاري الحديث عبر قناة السويس، والتبادل الموسيقي بين الطرب الينبعاوي والأدوار الحلبية وغناء الصعايدة المرتحلين نحو السويس وإيقاعات حوض المتوسط وشقاء البورسعيدية ولكنتهم ومرحهم، تراث ارتحال وتسرية وبوح وانتشاء مع نسيم البحر ولفحة شمسه، حرره زكريا ابراهيم من سجن الهوية المغلقة وأهداه لكل غاوٍ، بابًا مشرعًا على بحر واسع وأحباب من كل صوب".
لثلاثين عاماً، قدم الريس زكريا إبراهيم فنّ السمسمية إلى شعب مدينة بورسعيد، من دون أي مقابل، من خلال عرض أسبوعي منتظم، في كافيتريا النجمة على شاطئ بورفؤاد، وحفلين كل عام؛ الأول في عيد شمّ النسيم، والثاني في العيد القوي لمدينة بورسعيد في 23 ديسمبر.
كان يقدم هذين الحفلين في الشوارع، ووسط جماهير غفيرة، وآلاف المتجاوبين من الشباب والنساء والأطفال. كانت عروضه في بورسعيد بالغة التميز، لأن الأجواء تكاد تستحيل في مكان آخر. نعم، كان الرجل يقدم عرضاً شهرياً في القاهرة، وكان يسافر مع فرقته إلى كثير من بلدان العالم، ثم يكون إيابه دائماً إلى مدينته التي عشقها ووهبها كل عمره. في هذه المرة، رجع إلى بورسعيد، رجع إليها في إياب أخير.