قامت الدنيا ولم تقعد بسبب المسلسلين التاريخيين المصريين الوحيدين هذا العام: "سره الباتع" و"رسالة الإمام". اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، من جهة حول أحقية التبديل والتغيير في التاريخ بالعمل الفني من ناحية، ومن جهة أخرى حول الأخطاء الفنية، وخاصة الراكورات، مثل أن نرى جندياً فرنسياً يرتدي كامل بزته العسكرية، لكن مع حذاء رياضي، وكذلك الشكل غير الملائم للجنود الفرنسيين في مسلسل "سره الباتع"، ولا سيما ملامحهم المصرية الواضحة من دون الاستناد إلى رؤية فنية تبرّر الخيار. اعتبر رواد مواقع التواصل الاجتماعي الأمر جريمة لا تغتفر، وخللاً فنياً كبيراً يتحمله فريق عمل المسلسل، وعلى رأسهم المخرج.
ولكن الخلاف الأكثر حدة وشراسة تجسد في سؤال واضح وصريح هو: هل من حق المخرج إضافة أو تغيير وقائع أو تفاصيل تاريخية في العمل الفني، أم أنّه ملزم بالحفاظ على المصداقية التاريخية؟
هاج وماج وتشنج الكثيرون بسبب هذا السؤال، وبدأ كلّ فريق بإظهار حججه وبراهينه؛ فمنهم من استعان بفيلم "الناصر صلاح الدين" ليوسف شاهين، ليؤكّد حق المخرج بعدم الالتزام بالتاريخ وإضافة أحداث وشخصيات، مثل عيسى العوام الذي أدى دوره صلاح ذو الفقار، من دون أن يكون له وجود تاريخي.
لكن دعونا نوجز النقاط بسؤال بسيط: ما الفرق بين الإعلام والسينما؟ الأوّل قائم على التوجيه وفق نسق ومعايير أخلاقية وتربوية واجتماعية، وبالتالي هو موجه. أمّا الثاني فيقوم على الفكر، فالسينما هي بطبيعة تكوينها ومناقشتها للتابوهات الثلاث: الجنس والدين والسياسة تعكس بالضرورة رؤى مبدعيها لصياغة العالم بمنتهى الحرية غير المشروطة بأي منظومة اجتماعية أو سياسية أو رقابية.
وبناء على هذا نجد أن التلفزيون بسبب طبيعته محكوم بضوابط، بمعنى أننا إذا تصدينا لعمل تاريخي لا بد لنا أن نتحرى الأمانة التاريخية قبل الفنية، فالمسلسل عمل موجه سواء أردنا أم لم نرد.
أما السينما فتختلف؛ فشطحات المبدع محمودة، حتّى لو تدخل وغيّر الواقع التاريخي، لأنّ هذا يتماشى مع رؤيته الإبداعية لصياغة الواقعة التاريخية التي قد يتضاد معها أو يفسرها وفق معايير أكثر حداثة.
على سبيل المثال، نجد المخرج كوينتين تارانتينو في فيلمه "وانس أبون إيه تايم... إن هوليوود" Once Upon a Time... in Hollywood قد غيّر الواقعة التاريخية المعروفة، وهي الجريمة التي ارتكبتها مجموعة من المؤيدين لتشارلز مانسون بحق الممثلة شارون تيت التي ذبحت وبقرت بطنها وهي حامل، كما قتل معها عددٌ من أصدقائها في حادثة دموية.
فاجأ تارانتينو المشاهدين بتغيير هذه الواقعة، فالمجموعة التي ذبحت الممثلة في الواقع تخطأ في الفيلم، وتهاجم الفيلا المجاورة، ممّا يؤدي في النهاية إلى تسليمها للشرطة، مغيراً بذلك الواقعة التاريخية الدموية وكاتباً حياة جديدة للممثلة الشهيرة.
نجد أمامنا إعادة صياغة لواقعة تاريخية معروفة، ولكن وفق رؤية فنية خاصة لمخرج العمل ومؤلفه. وهكذا نستطيع أن نقبل أفلاماً مثل "الناصر صلاح الدين" ليوسف شاهين وغيره، لكننا لن نقبل بتغيير التاريخ بعمل فني يقدم عبر وسيط إعلامي، لأنّ هذا مخالف لوظيفة الإعلام، فمن أراد أن يقدم الفن بمعناه الإبداعي فليذهب إلى السينما، وأرجوكم ألا تخلطوا الأوراق. ومن كان منكم بلا خطيئة، فليرمني بحجر.