قال دَبشَليم، مَلك الهند، لبَيْدَبا، رأس فلاسفة النقد السينمائي: "اضربْ لي مثلاً بفيلمٍ، لنرى مما صُنع". فوراً، طفق الفيلسوف يتحدّث بإطنابٍ عن السينما، التي صوّرت المجتمع، وعبّرت عن قضاياه الوجودية والوجدانية، وعن فلسفة الصورة والمخرجين العباقرة. كان يتحدّث عن السينما برمّتها، كأنّه يعرفها كلّها، من غير أنْ يضرب مثلاً بفيلمٍ واحد.
لماذا؟ لأنّ المتحدّث يتحرّر في عموميات المادة الواسعة، ولا يُرهق نفسه بأسئلة وأمثلة مُحدّدة، فهو لم يعتَدْ الدقّة. تعرض السينما زمناً مشدوداً ومتوتراً، لا يليق التحدّث والكتابة عنه بحشوٍ وإطناب.
تُنشر مقالات عن السينما تُشبه هذه الفقرة: "إذا غمَرْنا فيلماً (لا يُذكر لا نوع اللقطة ولا محتواها ولا عنوان الفيلم) على شكل مكعّب، مساحة سطحه العلوي والسفلي (س) وارتفاعه (ع)، في أيّ سائل بكثافة (ث)، وكان مقدار غوصه إلى عمق (ل)، وبالتالي فالقوّة المؤثّرة على السطح السفلي تُسمّى الطفو الفيلمي".
شعر دَبشَليم والجمهور بالضجر، لأنّ مهمّةَ النقد السينمائي، في مقالة أو مداخلة من 20 دقيقة، تحليلُ فيلمٍ، على أمل استيفاء الموضوع حقّه.
لتحقيق ذلك، لا بُدّ من التركيز على ما تعرضه الشاشة. يقول جان كوكتو: "السينما كتابة حديثة، حبرُها الضوء". النقد السينمائي تفاعلٌ مع هذا الحبر. يعرض حبر الضوء عملاً فنياً مؤلَّفاً ومُركّباً. مؤلَّفٌ، أي "مُتكوِّن من أجزاء عدّة" ("موسوعة لالاند"، ص. 190). فيه عناصر عدّة. ما هي؟ سنستعيرها من جوائز "أوسكار"، التي تحدِّد الحِرف السينمائية، وتكافئ المبدعين، صنّاع الفيلم: السيناريو، أصلي ومُقتبس. التمثيل، أساسي وثانوي. زيّ الممثل ومكياجه. الإخراج، تقليدي أو حركي. التصوير. الإضاءة، وموقع الكاميرا. المونتاج، تراكمي أم تركيبي. الموسيقى. المؤثّرات الصوتية والبصرية.
من هذه الجوائز، يظهر أنّ الفيلم ليس قضية فلسفية مجرّدة. إنّه متن بصري ملموس أولاً، يُمكن تأويله فلسفياً، لكنْ من دون القفز على ماهيّته الفنية. إنّه ملتقى فنون عدّة. هذا يجعل نقدَ الفيلم أكثر تعقيداً.
النقدُ محاكمة المعرفة الجمالية والشعورية بمقياس المعرفة المنطقية العقلية. يُفترض بالناقد الروائي أنْ يعرف كيف تُكتب الرواية، وبالناقد السينمائي كيف تُصنع الأفلام. هذه مكوّنات تمتزج فيما بينها ولا تتجاور ولا يربطها حرف العطف. الفيلم نصٌّ يقرأ ويحلّل ويفكّك التحليل. هذا فعلٌ يُبعثر المجمّع والمركّب. الفيلم مُركّب من عناصر متباينة، تُدمج في عمل فني واحد، يُضاعَف تأثيرها، كما يقول الرياضيون عن الأعداد المركّبة، التي يحكمها قانون تكاثري ("موسوعة لالاند"، ص. 189).
كذلك مكوّنات الفيلم: تركيبها المعقّد والمتفاعل يُكثّف قوّتها الدلالية والعاطفية. يُمكن لصوتٍ أو لحركة كاميرا، يرافق نظرة شخصية، أنْ يمنحها دلالات وأثراً أكبر. مثلاً: في "الراهبة" (2018) لكورن هاردي، يحطّ غرابٌ على صليب. يتولّد معنى ثالث من العنصرين. هنا، تتحقّق استعارة "واحد زائد واحد تساوي ثلاثة" في الفنّ. مثلٌ مضاد: لو صوَّر فيلمٌ مغربي غراباً، يحطّ على هلال فوق مسجد، لأثار جدلاً.
هكذا، بدلاً من مناقشة كلّ السينما دفعة واحدة، لا بُدّ من التركيز على مثلٍ محدّد من فيلمٍ. السؤال المحدّد يُناقش جانباً فرعياً، كمناقشة الإخراج أو التمثيل أو السرد أو الزمكان.
هذا يُشبه المنهج الاستقصائي في علم الاجتماع. هذا شرّحه السوسيولوجي المغربي عبد الله حمودي، في محاضرة بعنوان "سؤال المنهج في راهنيتنا" (المؤتمر السنوي السابع للعلوم الاجتماعية والإنسانية، الدوحة، مارس/ آذار 2019)، أكّد فيها ضرورة الانطلاق من أسئلة وأمثلة محدّدة، لاستخلاص أفكار تناقَش. هذا أفضل من العموميات في مادة مستفيضة. هذا المنهج خيطٌ رابطٌ بين الكتابة في مجالات عدّة، منها النقد السينمائي. استشهد حمودي بقول عبد الله العروي: "لا بُدّ من منهجٍ، وإلّا فتساؤلاتنا ستبقى خطاباً أيديولوجياً، لا يُنتج مادة جديدة، ولا معرفة". المنهج يصنّف. يُسهِّل التصنيف تدبيرَ ركام المعلومات. لذلك، طالب حمودي بمنهجٍ يُنتج "باراديغم" (إطار نظري)، ويقدِّم مفاهيم ومصطلحات متراصة، ويوفّر مسافة نقدية في الملاحظة والتشخيص والتوصيف والتنظير والاستنتاج، في التعامل مع ما هو حميميّ.
على صعيد الإطار النظريّ، المنهج طريقة لتجاوز فخفخة الكلام وتضخيمه في فقاعات لا محتوى فيها. حين يغيب المنهج، يهيمن الـ"بريكولاج" والذوق: "الذوق سمة عامّة للتقديرات الفنية لدى الفرد" ("موسوعة لالاند"، ص. 469). المنهج ليس سمة عامّة. إنّه سمة خصوصية نخبوية.
على صعيد المصطلحات، هل يُمكن التفكير من دون مفاهيم؟ كلا. لذلك، لا بُدّ من قاموس بصري معاصر، ومعجم يدعم الوحدة الداخلية للمقاربة والكتابة بلغة حديثة، لا أثر فيها لرائحة الفقه ومعجم الشعر القديم واستعاراته وتعابيره المسكوكة، من قبيل لا مشاحة أنّ بطل الفيلم يمارس الرذيلة. هذا تعبير ملائم، حين يصدر عن فقيه لا عن ناقد. المنهج ضروريّ لكتابة نقد دقيق، يُثمر معرفة. النقد ليس بمعنى القدح بل بمعنى تعرية الفرضيات الدفينة.
ختاماً، هذا مثل تاريخي: كيف يُمكن للنقد أنْ يخدم الفن؟ الجواب: كما خدم كارل ماركس النظام الرأسمالي، بنقده. أشرس نقدٍ كتبه ماركس ضد الرأسمالية والبورجوازية، حين هبّت ريح الثورات عام 1848. في "البيان الشيوعي"، قال ماركس إنّ الرأسمالية تهيمن على العالم، وتستغلّ البروليتاريا، وتُنتج سلعاً غير مسبوقة. قال إنّ البورجوازية تبني عالماً على صورتها.
نقد ماركس للرأسمالية والبورجوازيين قاسٍ. لذلك، أفاد من وُجِّه إليهم. فهموا أنّ الثورة خطرة، وأنّه لامتصاص الغضب الطبقي، يُستحسن تلبية بعض مطالب الكادحين من دون ثورة. النتيجة، أنّه في 18 شهراً التالية على عام 1848، توحّد الرأسماليون بقوّة، فهزموا الحكومات الثورية، واسترجعت القوى المحافظة نفوذها في ألمانيا والنمسا. أصلح النظام نفسه تحت ضربات النقد، وبفضله. فعلاً، بنت البورجوازية عالماً على مقاسها. هذا نقدٌ لا يصل إليه أيّ مديح.
ما هي الخدمة التي يُمكن أنْ يقدّمها النقد المُمنهج والصارم للمشهد الفني؟ من جهة، يكتشف المبدعين ويدعمهم. من جهة ثانية، يفضح المدّعين، ويُجبر الطفيليين على التفكير قبل اقتحام مشهد، يحتاج إلى فنانين ومثقفين، لا إلى سماسرة.