تُشكّل النقوش الصخرية مصدراً مهمّاً من مصادر الكتابة التاريخيّة العربيّة، باعتبارها وثائق بصريّة مُذهلة شاهدة عن أزمنةٍ سحيقة مرّت فيها المنطقة العربيّة. لكونها تكشف بشكلٍ دقيقٍ عن فنون وممارسات إنسان ما قبل التاريخ ومُشاهداته اليوميّة في التّرحال والصيد والشعائر الدّينية. لذلك، فإنّ أغلب نقوش الفنّ الصخري، يغلب عليها تصوير الحيوانات، التي تتميّز بكبر حجمها وعُنفها وقوّتها وتغوّلها في الطبيعة.
وتُمثّل هذه النقوش تراثاً فنياً لا ينضب، وتُعدّ من أجمل التحف الفنية التي تزخر بها المنطقة المَغاربيّة، لأنّها تضعنا بشكلٍ مُباشر مع تفكير المنطقة وترصد لنا تخوّف وأفراح وهواجس الإنسان القديم في علاقته بالطبيعة وتغيّرات المناخ. فقد ساهم اختلاف المجال الجغرافي الذي يُميّز المنطقة المَغاربيّة في بروز نقوشٍ صخرية مُختلفةٍ ومُتباينةٍ، إذ لا تكشف فقط عن السياق التاريخيّ الذي مرّ فيه هذا الحيّز الجغرافي، بل نمط التفكير وأنواع الحيوانات التي عمّرت هذه البقعة الجغرافيّة. لذلك لطالما اعتبرت النقوش الصخرية من أهمّ المصادر البصريّة القويّة، التي يستعين بها المُؤرّخ من أجل تبيان المسرح الحضاري الذي عاش فيه إنسان ما قبل التاريخ، نظراً إلى انعدام وثائق تاريخيّة، تُؤكّد صحّة ونجاعة بعض الأحداث التاريخيّة من عدمها، لا سيما أنّ الأمر يتعلّق بملايين السنين، ما يجعل بعض الروايات الشفوية أو حتّى المكتوبة المُتناقلة عبر العصور، غير دقيقة ولا تُقرّب القارئ إلى طبيعة الحياة اليوميّة لإنسان ما قبل التاريخ، حتّى لو كانت فكّاً أو عظماً أو بقايا جسدٍ متناثر في المَغارات والكهوف والساحات.
غير أنّ قيام بعض الباحثين العرب والأجانب بالعديد من العمليات الأركيولوجية منذ بداية الألفية الجديدة، أكّد أنّ المغرب، يُعدّ في طليعة البلدان العربيّة، التي تعرف نموّاً مُتزايداً من حيث العثور على مواقع النقوش الصخرية، بحكم تنوّعها وغزارتها داخل المجال الجغرافي المغربيّ، ما جعل الجهة الرسميّة الوصية على الشأن الأثريّ في المغرب، تعمل جاهدة على الحفر في هذه المواقع وتكثيف الدراسة عنها واعتبارها بشكلٍ رسميّ مواقع أثريّة تستحقّ كلّ أشكال المُعاينة والاهتمام، بعدما كانت أشبه بفضاءاتٍ عموميةٍ مفتوحة في وجه الناس يلعب فوق زخارفها الأطفال ويتجوّلون بمحاذاتها، من دون أيّ عنايةٍ أو رقابةٍ حتّى.
غير أنّ إلحاح بعض الباحثين الأركيولوجيين من جهة، والاكتشافات المُذهلة والمُثيرة، جعل الجهة الوزارة الوصية تبذل مجهوداً مُضاعفاً من أجل ترميم هذه الفنون الصخريّة وتسهر على رعايتها وتثمينها وتأريخها داخل كتالوغاتٍ فنّية، لما تُضمره من أهميّة بالغةٍ بالنسبة للتراث الأثريّ في المغرب والسبق التاريخيّ لهذا البلد داخل بلدان حوض البحر الأبيض المُتوسّط وعلاقات الفنّي والتأثّر الجمالي بين هذه البلدان إبان فتراتٍ تاريخيّة سحيقة، ظلّ فيها الإنسان القديم مُفكّراً في الفنّ ونقوشه على الصخر، باعتبارها وسيلة تسلية من جهةٍ، وتواصل فعّال مع الأجيال القادمةٍ من جهة أخرى.
وتختلف هذه النقوش من موقع أثريّ إلى آخر، إذ يحرص الأركيولوجيون على التمييز في الفنّ الصخري بين نوعين من الأشكال، الأوّل يُسمّى بـ "النقوش الصخرية"، حيث نعثر على نماذجه وجدارياته كعبارة عن رموز وأشكال وعلامات في فضاءاتٍ مَفتوحةٍ قريبة من الناس ويتردّدون عليها دوماً. ذلك أنّ هذا النوع الفنّي، يُعدّ الطور الأوّلي التقليدي للفنّ الصخري، حيث يُسجّل الأثريون والمُتخصّصون نوعاً من التعلّم في كاليغرافية الخطوط والعلامات وتموّجها على الصخر. أمّا النوع الثاني، فهو الرسوم الصباغية وتُشكّل مرحلة مُتقدّمة من الفنّ الصخري، حيث نعثر على الفنّان القديم وقد وضع عدّة ألوان على رسومه، وانتقل ضمنياً من تصوير الحيوانات الضخمة إلى أشياء صغيرة ذات علاقة بحياته اليوميّة. فهذا النوع لا نعثر عليه إلاّ داخل الكهوف والمغارات، وكأنّ الفنّان أراد أن يحمي رسومه الصباغية المُتفرّدة من عنف الطبيعة والإنسان.
تتميّز الفنون الصخرية في كونها تسحر عين المُشاهد، وتجعله يُفكّر في دلالات هذه المُمارسات القديمة، وما إذا كان من المُمكن اعتبارها فنّاً بالمفهوم المُتداول في الحقبة المعاصرة. لكنّ المُدقّق في طبيعة هذه اللوحات البصريّة الموجودة في مناطق جغرافيّة مَفتوحة على الفضاء العام، قد يصاب بالذهول من قُدرة الفنّانين القدامى على التخييل وتصوير طبيعة الحياة اليوميّة، إذ تتوفّر على جميع المُقوّمات الجماليّة، التي تجعل من هذه النقوش الصخرية أفقاً فنياً أصيلاً مُرتبطاً بسياقٍ تاريخيّ مُعيّن، لم يكُن الإنسان يُفكّر أو يقوى على العيش فيه بسهولة.
وبقدر ما تُعد هذه الفنون الصخرية وثيقة بصريّة للمُؤرّخ، فإنّها تُعدّ خزاناً جمالياً لا ينضب يستوحي منه الفنّان المعاصر مُنطلقاته الفنّية ودلالاته الرمزيّة وعناصره الجماليّة كافة، ولا سيما على مُستوى فيزيونوميّة الأجساد والعلامات والرموز. من ثمّ، فإنّ هذه النقوش الصخرية ذات النفس الأمازيغي، لا يُمكن اعتبارها فنّاً قديماً، لكونها تحضر بطُرقٍ معاصرة من خلال عشرات التجارب التشكيليّة العربيّة، التي تستلهم علامات ورموز وأجساد إنسان ما قبل التاريخ على سطح اللوحة، بما يجعل هذه الفنون الصخرية بمثابة مختبرٍ بصريّ معاصر، يستوحي منه الفنّانون العرب ثقل التجربة الإنسانية وآلامها في علاقتها بتحوّلات الجسد والطبيعة والفضاء.
غير أنّ ما ينبغي التأكيد عليه، أنّه لا يُمكن النظّر إلى هذه الفنون الصخرية، بمنأى عن كونها صورة مُصغّرة عن طبيعة الحياة اليوميّة القديمة في عُنفها وشقائها. فإذا تتبعنا مراحل وسياقات الفنّ الصخري، سنعثر على حكايةٍ بصريّةٍ مُذهلة تُصوّر المَسار التاريخيّ التراجيدي، الذي مرّ منه الإنسان في علاقته بالحضارة المادّية، وطرق العيش والتعبّد والتواصل والتخييل.