بعد ما يقرب من 300 عام على رحيل الرومان، في العصر الأنغلوساكسوني، كان أكثر من ثلاثة أرباع الناس في أجزاء واسعة من إنكلترا من المهاجرين الجدد من شمال أوروبا، وفقاً لدراسة جديدة أعدها فريق بحثي متعدد التخصصات، بما في ذلك علم الآثار والتاريخ واللغات وعلم الوراثة.
تظهر النتائج الجينية التي نشرت يوم 21 سبتمبر/ أيلول الحالي في دورية نيتشر أن قرابة 75 في المائة من السكان في شرق إنكلترا وجنوبها يتكونون من عائلات مهاجرة، يجب أن يكون أسلافهم قد نشأوا في المناطق القارية المطلة على بحر الشمال، بما في ذلك هولندا وألمانيا والدنمارك. تزاوجت هذه العائلات مع السكان الحاليين لبريطانيا، ولكن الأهم من ذلك أن هذا التكامل يختلف من منطقة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر، ضمن حدود الجزر البريطانية.
باستخدام البيانات الجينية المنشورة لأكثر من 4000 من الأوروبيين القدامى و10 آلاف من الأوروبيين في الوقت الحاضر، حدد المؤلفون الاختلافات الجينية الدقيقة بين المجموعات ذات الصلة الوثيقة التي تعيش في منطقة بحر الشمال القديمة.
وقال المؤلف الرئيسي للدراسة جوشا غريتزنغر، الباحث في معهد ماكس بلانك للجيو-أنثروبولوجيا، إن الدراسة تقدم دليلاً قوياً على هجرة واسعة النطاق من شمال أوروبا القارية إلى بريطانيا خلال أوائل العصور الوسطى.
خلال الفترة من القرن الخامس إلى التاسع، أظهرت المدافن في شرق إنكلترا أصولاً مهاجرة في الغالب من شمال هولندا وشمال ألمانيا والدنمارك، في المتوسط 76%، مع مساهمات صغيرة فقط من السكان المحليين. يحمل الإنكليز المعاصرون جينات أقل بكثير من تلك المناطق، تراوح تقريباً بين 25 و45%، مع تباين إقليمي قوي. يشير هذا إلى أن العمليات الديموغرافية الحديثة قللت من أصل شمال أوروبا في إنكلترا بعد الهجرة الأولية.
وأضاف غريتزنغر، في تصريح لـ"العربي الجديد": "وجدنا أيضاً أن هذه الهجرة الجماعية شملت كلاً من النساء والرجال الذين اختلطوا لاحقاً بالسكان المحليين. ومع ذلك، هناك بعض الأدلة على أن السكان المحليين والمهاجرين مارسوا تقاليد الدفن المختلفة. في المتوسط، كانت مدافن الإناث من أصول مهاجرة تحتوي على مقابر أكثر ثراء وكانت في كثير من الأحيان مزينة بدبابيس، على الرغم من أن هذا لا يثبت أن المهاجرين كانوا عموما أكثر ثراء أو في مكانة أعلى".
في مقبرة أنغلوساكسونية تقع بالقرب من دوفر، تمكن الباحثون من إعادة بناء شجرة عائلة عبر أربعة أجيال على الأقل، وتحديد النقطة الزمنية عندما تزاوج المهاجرون والسكان المحليون. أظهرت هذه العائلة درجة كبيرة من التفاعل بين مجموعتي الجينات. بشكل عام، شاهد الباحثون مدافن ذات مكانة بارزة عبر المقابر المدروسة من أصل محلي ومهاجر.
شرح غريتزنغر أن عملية التحقق من أصول الرفات التي عثر عليها، تطلبت فريق عمل كبير في معامل المؤسسات البحثية المخصصة لاستخراج الحمض النووي القديم الأصيل من عينات العظام. جاءت معظم هذه العينات من الأسنان والعظام الصدغية الأحفورية التي عثر عليها في مواقع مختلفة في إنكلترا. بعد ذلك، خصب الفريق أجزاء الحمض النووي التي تداخلت مع 1.24 مليون تعدد أشكال النوكليوتيدات المفردة (SNPs)، وهو اختلاف في سلسلة الحمض النووي يحدث عادة في مجموعة من السكان، إذ يختلف نوكليوتيد بين فردين من النوع البيولوجي نفسه أو بين كروموسومات مزدوجة. بعد تتبع التسلسل، خضع الحمض النووي القديم لترشيح جودة صارم لتجنب التلوث من المصادر القديمة والحالية.
"بالنسبة لجميع العينات التي اجتازت ترشيح الجودة، قارنّا الأنماط الجينية الخاصة بها على 1.24 مليون SNPs، طبقا للوحات المرجعية الأوروبية القديمة والحديثة، باستخدام مجموعة متنوعة من الأساليب الإحصائية"، قال غريتزنغر الذي أوضح أنه حتى الآن كان مدى الهجرات الأنغلوساكسونية محل خلاف كبير.
بينما جادل بعض العلماء بالهجرة الجماعية، فضل البعض الآخر نموذج نقل النخبة، إذ هاجرت مجموعات المحاربين الصغيرة، التي يسيطر عليها الذكور، من أوروبا إلى بريطانيا. "نحن الآن قادرون على توضيح أن موجة الهجرة كانت شعبية، ولم تكن فقط مجموعة صغيرة انتقلت إلى إنكلترا، ولكن أعداداً كبيرة من الذكور والإناث على حد سواء"، أوضح غريتزنغر الذي لفت إلى أن الدراسة تناولت بالتحليل المواقع الأثرية من شرق إنكلترا، ومن ثم يمكن اعتبارها المنطقة الأكثر تأثراً بموجات الهجرة الأنغلوساكسونية.
في أجزاء أخرى من إنكلترا، خاصة في الغرب والشمال، قد يكون معدل الانتقال الجيني الملحوظ أقل أهمية. ويمكن أن تمثل هذه المناطق مأوى للسكان المحليين وربما مرت بمسارات ديموغرافية مختلفة.
يخطط المؤلفون لمواصلة العمل على دراسة الحمض النووي الإنكليزي في العصور الوسطى المبكرة. "في مشروعنا المستقبلي، سنركز في الغالب على إعادة بناء النسب لفهم كيفية تفاعل الوافدين الجدد والأسر المحلية وكيف عبر نسلهم عن هويتهم".