منذ 40 عاماً، يُقيم المخرج والمنتج المستقلّ باز شمعون بين كندا وأوروبا. اهتمّ بالأفلام الوثائقية الطويلة والقصيرة، وحقّق عدداً منها، مُؤلّفاً ومُخرجاً: "أين العراق" و"ذاكرة"، بالإضافة إلى أفلامٍ وثائقية طويلة، كـ"مونولوغ غير مكتمل" و"73 درجة مئوية" و"يا يمّة".
حصل على الماجستير (1989) في الفيلم التلفزيوني، كلية الإعلام في جامعة براغ (تشيكوسلوفاكيا السابقة). استمرّ في صنع أفلامٍ بديلة كمؤلّف ـ مخرج ومنتج مستقلّ. عمل في شبكات تلفزيونية عدّة في الشرق الأوسط والعراق، ووقّع على إنتاجات سينمائية مستقلّة، قصيرة وطويلة.
في كندا، أسّس شركتي KIC Film Ltd، عام 2010، في تورنتو، و"أنكيدو للإنتاج" في مونتريال، عام 1998، التي استمرّ عملها حتّى عام 2006.
بدأتَ السينما في المنفى، حيث تعيش منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي. ما الذي جعلك تختار السينما؟
الصورة التي تتكرّر في ذهني وخيالي، والزمن الذي يأخذني إلى جذوري بعيداً، تحديداً قبل إعلان "الجبهة الوطنية"، تقول كلّها إنّه كان يوماً ربيعياً عرائسياً في سهل نينوى، والبيت الكبير يتكوّن من الطين الأحمر، لكنّ بناءه مُتقن ومدروس، ليكون صالحاً للشتاء والفصول الأخرى. كانت هناك زغاريد كثيرة، وسعادة كبيرة. في تلك اللحظات، كما أعتقد، وصلت هدية مُقبلة من موسكو: صورة بالألوان لعائلتي الصغيرة، الوالدين وشقيقتيّ الصغيرة والكبيرة وأنا. أدهشني نوع الإطار/الكادر وألوانه ومزاجه، والتقنية العالية للطباعة البلاستيكية. مع هذه الصورة، كاميرا من نوع "زينيت" الروسية، ثقيلة وسوداء وغريبة. كنتُ أركض في باحة البيت الكبير، وألتقط بسرعة اللقطة، بعد اختياري اللحظة. الكاميرا من دون فيلم. التقطتُ كما أعتقد ملايين الصور.
أوجدت الكاميرا في بُعد استثنائي ومغامراتي، إذْ أصبحت الأرشفة الصورية ليست في شريط فيلم، بما أنّي لم أختبر شريطاً واحداً فيها، حتّى مغادرتي المفاجئة من بلدي، وأنا في سنّ المراهقة، ولم ألمس الشريط الخام. رحتلي الثانية اكتشافٌ أولاً للكاميرا، وثانياً لمادة النيغاتيف، بأنواعه وأحجامه المختلفة، في براغ التشيكوسلوفاكية سابقاً. آخر تحصيل علمي لي تخرّجي، أيام الثورة المخملية، التي قادها فاتسلاف هافل. تخرّجت بماجستير من جامعة "جارلس"، متخصّصاً بالفيلم التلفزيوني والإعلام.
بدأتَ بإخراج الأفلام الوثائقية، في التسعينيات، من خلال شركتك "أنكيدو للإنتاج"، التي أسّستها في مونتريال. ما الذي تبقى من إنجاز هذه الشركة؟
هذه شركة إنتاج، أنتجت مجموعة أفلام، أهمها "الرغبة والطين"، المُصوّر بكاميرا سينمائية، ويحمل شريطاً سينمائياً. كنتُ أحاول أنْ أخرج بالكلمة الشعرية على الشاشة الكبيرة. كانت معالجة ورؤية صورة نَثراً لبعض أبيات ابن العربي والسياب والحلاج، مع شاعر متصوّف من كندا، وبعض من نصوصي النثرية. كلّها رُتِّب لها منهجٌ فلسفي وروحاني، لتكون جاهزة لبناء الصورة، لغة الشعر في السينما، أحد أعمدة الفنّ السينمائي، لي تجربة ممتعة في تقديمها على الشاشة الكبيرة.
أنتجت "أنكيدو" أيضاً روائياً آخر، ووثائقياً صُوِّر سينمائياً بالألوان، "مونولوغ"، تبلغ مدّته 92 دقيقة، لم يعرض إلى الآن، منذ إتمام نسخته النهائية، عام 2000، لأسبابٍ فنية مع إحدى الجهات المُشاركة في إنتاجه. لا زمن له إطلاقاً. إنّه حالة روحانية، تمتدّ بعلاقة مع الفقر والموت. مونولوغ وجودي مُتأثّر بالشاعر التشيكي ماري ريلك، تحديداً بمنجزه "الشاعر الشاب"، الذي كان يعيش في باريس، حينها.
انتُدبْت أكثر من مرة مسؤولاً عن درس الكتابة، في ورشة صناعة الأفلام الوثائقية، التي أقامتها "شركة عشتار". ماذا عن خبرتك في الأفلام الوثائقية، وسُبل تعليمها؟
كتابة فيلمٍ وثائقي أعقد في البناء وكتابة السيناريو من كتابة فيلمٍ روائي. أتحدّث هنا عن كيفية كتابة فيلمٍ وثائقي، وكيفية صنع هذا الفيلم عملياً. أصنعُ أفلاماً مستقلّة بديلة، أي -كما يُعبّر عنهاـ "سينما المؤلف"، التي تعود أصولها إلى ستينيات القرن الماضي، وتجدها عند تروفو وغودار الفرنسيين، وغوترا الكندي. إنّه من أكثر الأساليب الوثائقية عقدة، لكنّ وقْعَ تأثيرات هذا الأسلوب على المجتمع صادمٌ، لأنّه لا يبحث عن حلول، بل ينثر أسئلة مصيرية وجودية.
فيلمك الطويل "مونولوغ غير مكتمل" عن كاتب مسرحي. لكنّك حرصت، في أفلامك الروائية الطويلة الأخيرة، على تناول أحداثٍ تخصّ بلدك: سبي داعش للنساء في "73 درجة مئوية"، و"ثورة تشرين" في "يا يمة". ماذا عن هذا التحوّل؟
منذ انتهاء زمن الديكتاتور، أصبحت مشاريع أفلامي منشغلة بالعراق وعنه وفيه. إنّه الخامة التي أشتغل عليها، في الأعوام العشرة الماضية. إنّه تحوّل طبيعي. هويتي المنفى، وفي بلدي مُصنّف بالمغترب، أو المستشرق. بهذا التصنيف الخاطئ، يستقبلني زملائي في بلدي. إنّه تعريف غير صحيح، وناقص، لأنّي مولود في العراق، وأتكلّم أقدم لغة، وأكتب وأقرأ العربية، ولم أتعلّمها في سويسرا بل في دياري. المستشرق أجنبي، يتبنّى مشواراً فكرياً ولغوياً وثقافياً في بلد ليس بلده. في "73 درجة مئوية"، لم أتناول سبي المُكوّن اليزيدي، بل المكوّنات العراقية برمّتها. كنتُ أبحث فيه عن حالة بلدي تحت الاحتلال والمليشيات والإرهاب، عبر عيون أطفالٍ وتجاربهم، مزّقتهم الحروب الطويلة، وخنقتهم بين الحياة والموت.
ما الذي تودّ إنجازه في وثائقيّاتك؟
أعمل الآن على إنتاج فيلمٍ طويل غير روائي، ثيمته رحم الأم التي تُرسل ولدها ليعتصم من أجل الخبز والحرية والحب والحقيقة. هذه المفردات تساوي، في دلالتها، الثورة، وحجمها الكبير. فور اغتياله، تبدأ حكاية الفيلم: مُطالبة الأم بالعدالة، من قضاءٍ تعتبره، هي نفسها، فاسداً وساقطاً أخلاقياً. الفيلم، "يا يمّه"، بات في مراحله الإنتاجية الآن.
وماذا عن فيلمك الروائي الطويل، الذي تُحضّره حالياً؟
تعود حكاية الروائي الطويل إلى زمن الديكتاتور، ومحاكم الإعدام التي كانت كرنفالات الاستبداد والقتل المتعمّد فيها تعبُر الخيال في انتهاكاتها. قُدّم المشروع للحصول على دعم مادي في "بغداد عاصمة الثقافة"، عام 2019، لكنّه رُفض للأسف. كان هناك عددٌ من الذين استلموا "مؤسّسة السينما والمسرح"، ورفعوا شعارات ونوايا طيّبة، للقضاء على الفساد فيها، على غرار الفساد الذي ضرب مشروع "بغداد عاصمة الثقافة".
قدّمت المشروع إلى لجنة اختيار النصوص، وجرت الموافقة على إنتاجه بالاشتراك مع "شركة كيك فيلم" الكندية وهولندا، وكان يُفترض بالتوقيع على إنتاجه مع المؤسّسة أنْ يتمّ عام 2020. لكنّ التظاهرات وكورونا أعاقت عملية الإجراءات الإنتاجية، بداية عام 2021، وأُبعد مشروعي عن الواجهة، مرة أخرى.
ماذا تقول عن المشهد السينمائي العراقي الآن؟
المشهد السينمائي العراقي غير موجود. إنّه مشهدٌ مؤسف، وحاله حال بلدٍ يستهلك ولا ينتج، ويعوم في الفساد والقتل والسلاح، والانتهاكات التي بلغت الحجر. فكيف يكون هناك مشهد سينمائي إنتاجي، وأنت في سجن كبير ومخنوق؟ المشهد السينمائي ممسوخ برمّته، والحرب الدائرة بين أطرافه لن تنتهي إلا بانتهاء المحسوبية، والعنصرية الدينية المقيتة، والطائفية، والولاء. المشهد السينمائي يحتاج إلى منافسة، لكنْ ما نوع المنافسة الإنتاجية وأصولها وسلوكها؟ الاحترام المتبادل بين المحترفين ومؤسّسات الدولة، الراعية للفكر النظيف والحر. فالعشيرة لا تنتج سينما، والمؤسّسات الدينية لا تنتج سينما، والمليشيات لا تنتج سينما. قوى الإنتاج تتحمّل وسائل الإنتاج، وتديرها وتموّلها وترعاها وتنظّمها، في مفهومٍ وطني سينمائي بعيدٍ عن العائلة والعشيرة والصداقات الضيّقة. السينما فكرٌ وتعليم وخيال، وأخلاق مهنية صافية، ومنهج، ووسائل إنتاج.
هذا كلّه غير موجود في المشهد السينمائي.