انتهت المباراة الافتتاحية لكأس العالم لكرة القدم بخسارة منتخب قطر أمام نظيره الإكوادوري بنتيجة 2 - 0. ما يهمنا من هذه المباراة هو ما حصل أثناء الدقيقة الثالثة منها. حين ضُبط مايكل إسترادا متسللاً، وألغي الهدف الذي حققه بعد عودة الحكام إلى شاشة الـVAR، أو حكم الفيديو المساعد، إذ أوقفت اللعبة، تحقّق الحكام من التسلل على الشاشة، وألغي الهدف.
المصادفة التي حصلت في هذه اللحظة، يمكن قراءتها بوصفها علامة على تغيير كرة القدم. منذ الدقائق الأولى، في أول مباراة، تدخلت "الشاشة"، تلك التي استخدمت للمرة الأولى في المونديال السابق، وها هي حالياً تُرسّخ سلطة "المراقبة التامة". كل ما يحدث على أرض الملعب مسجل، ويمكن العودة إليه للتأكد منه، بهدف "ضمان عدالة" اللعب، حسب الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا).
سؤال العدالة، هنا، يحيلنا إلى اللعب بصورته الصرفة، ذاك الذي يمكن أن يشابه ألعاب الفيديو في دقته، وعجزه عن مسايرة الخطأ، بل حتى ألعاب الفيديو نفسها لفترة طويلة كانت تحوي Bugs؛ أخطاء محددة يمكن عبرها تسجيل هدف، أو مراوغة لاعب، أو أي أمر يمكن أن يُحال إلى عدم انضباط القواعد أو سوء التصميم. نعم، لا عدالة في هذا النوع من الأخطاء، لكنها جزءٌ من اللعب. الرهان على الخطأ البشري، كسهو أحد الحكام أو عدم انتباهه، أو أي سبب آخر، لا ينفصل عن المهارة، تلك التي تدخل ضمنها الحذلقة والقدرة على الخداع وغيرها. لكن في هذا المونديال، حسم الأمر من الدقائق الأولى. اللعب مُراقب، لا مجال للخطأ. هل السبب رأسمالية اللعبة؟ ربما، أو لعلّها الرغبة بمواكبة التكنولوجيا أيضاً. لكن الحقيقة، قلق إيقاف اللعب أصبح حاضراً. اللعب "الحي" لم يعد هو الأصل. هناك الشاشة، تلك التي نحن كمشاهدين نمتلك سلطة ما بسببها، قد نرصد أخطاء لا ترصد في أرض الملعب. ويمكن هنا تفسير تدخّل الشاشة والتلاعب بتدفق الزمن كمحاولة لإرضائنا نحن، الذين نرى "الخطأ"، ولا نستطيع تغييره، فنلوم الحكام أنفسهم على تقصيرهم.
ما يثير الريبة في هذه المباراة أنه حين استخدمت تقنية الـVAR، شعرنا أننا خلال ثوان خرجنا من الملعب، ودخلنا الشاشة. فقد اللاعبون لحمهم وتحولوا إلى مجرّد مجسمات ثلاثية الأبعاد، لنكتشف بعدها مقدار المقاييس والخوارزميات والمراقبة التي تخضع لها أجسامهم، ونكتشف، أيضاً، أن ساقاً ونصف فخذ حسما الأمر، وتم إقرار التسلل. اللافت أن الأدوار انعكست. لم يعد اللحم والجسد الإنسانيين، وقدرة الحكم على "إدراك" اللعب هي العوامل الحاسمة، بل الشاشة والخوارزميات، القادرة على قياس حركة اللاعبين وكأنها مصممة مسبقاً، وكأن قواعد ألعاب الفيديو هي الحاكمة، ويمكن لثوان أن يتلاشى اللحم، ويحل مكانه المجسم الرقمي المُقاس بدقة والمضبوط بشكل كامل، أو تلك الشريحة الإلكترونية الموضوعة داخل الكرة نفسها، وتساعد الكرة على تمييز موقعها وموقع اللاعب، للتحقق من التسلل بدقة أكبر. وهذا ما حصل، أيضاً، وبكثرة، في المباراة التي جمعت منتخبي السعودية والأرجنتين، وانتهت بفوز مفاجئ للنسور الخضر. كان الحكم قد ألغى هدفاً للأرجنتين بعد مراجعة الـVAR، بداعي التسلل أيضاً. ولهذا، ربّما، راهن المنتخب السعودي على خدعة مصيدة التسلل معظم الشوط الأول. فاللاعبون يثقون بالـVAR، لأنه سيحميهم.
تقنية الـVAR، واستخدامها بهذه الطريقة من الدقائق الأولى من المباراة الأولى، كما في حالة قطر والإكوادور، يبدو انتصاراً للعب النظيف جداً، أي ذاك الذي لا يمكن الغش فيه. وهذا المقلق، أزمة المراقبة الكاملة التي تشكلها تقنية الـVAR، أي كاميرات المراقبة والتصوير، والحساس في الكرة، ورصد حركة اللاعبين، كلها تراهن على الرياضيات، والقدرة الحسابية على التقاط الواقع بدقة غير متناهية، وهذا ما يثير القشعريرة. المراقبة التامة تهدد اللعب، صحيح أنه سيكون "مفرطاً في نظافته" والتزامه بالقوانين، لكن هذا الالتزام نفسه يحرمنا من الخطأ، من مساحة الارتجال والتحذلق و"الأداء"، مقابل التركيز على الالتزام بالقوانين والالتزام بها بصرامة. هل نلعب، أم نتبع سيناريو دقيقاً؟
لا ننكر أحقية استخدام هذه التكنولوجيا، ولا نعلم بعد الدور الذي يمكن أن تلعبه لاحقاً في مونديال قطر، أو في غيره من بطولات كرة القدم، لكنّ زمن الأخطاء ولّى، لا مجال للـ"تفكّه"، ومحاولات الالتفاف حول القواعد. كلّ شيء مراقب، بل ويمكن للزمن نفسه أن يعود للوراء، ويعيد رسم نتيجة المباراة.