"جميعنا غرباء": سَيْرٌ سينمائيّ على الحافة

10 يونيو 2024
"جميعنا غرباء": دقّة وسحر يعالجان قضايا غير بسيطة (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "جميعنا غرباء" يستكشف موضوعات الحب، الفقد، والخيال من خلال قصة آدم، الذي يعيد الاتصال بوالديه المتوفين في زمن موازٍ، مكشفًا عن مشاعر مكبوتة وميوله الجنسية.
- تطور العلاقة بين آدم وجاره الأصغر هاري تعكس التحديات والتغيرات في تجربة المثلية عبر الأجيال، مضيفة بُعدًا عن العزلة والتحول الشخصي ضمن العلاقات الإنسانية.
- الفيلم يعد تأملًا في الحاجة إلى التواصل والتفهم، مستخدمًا الخيال لاستكشاف الواقع وتقديم رسالة عن قوة الحب والتحرر من الوحدة والندم، معززًا بأداء قوي وإخراج حساس.

"سأحميك من المخلب المقنَّع/ سأبقي مصّاصي الدماء بعيداً عن بابك/ عندما تغرق السفن سأكون في الجوار/ مع حبّي الذي لا يموت ويتحدّى الموت لأجلك".

من أغنية "قوّة الحب" لفرقة "فرانكي يذهب إلى هوليوود"

 

الفانتازيا أو الحلم أو الخيال عوالم مثالية للّعب مع ما كان يُمكن أنْ يكون، وما لم يكن. مع الشعور بالذنب والندم والمواقف، التي وَدّ المرء عيشها، ولسبب ما لم يعشها. "جميعنا غرباء" (2023)، للبريطاني أندرو هاي، عبارة عن "ماذا لو" كبيرة، تنتظم في سلسلة أحداث غريبة وعاطفية، تغيّر الواقع وتمزجه بالأحلام والخيال والفانتازيا. مخرج "45 عاماً" (2015) و"وويك إند" (2011)، المشهود بأعماله الشاعرية الرومانسية، لا يهتم بآليات اللعبة قدر اهتمامه بما تثيره اللعبة. بهذا المعنى، فيلمه نقيض آليات اللعب بالزمن التي يتبعها كريستوفر نولان، أو سينمائيون يصنعون أكوانهم عبر "تركيب القطع معاً". ربما ليس كلّ شيء هنا في مكانه الصحيح تماماً، لكنْ لا يهمّ. ما يهمّ أنّه يؤثّر ويؤلم ويحرّك.

مقتبس من رواية "غرباء" (1987) للياباني تايتشي يامادا (لكن مع وجود علاقة مثلية في مركزها)، يتمركز "جميعنا غرباء" حول آدم (أندرو سكوت، المُتجَاهَل ظلماً كالفيلم في ترشيحات "أوسكار" 2024)، كاتب سيناريو وحيد يعاني انسداداً إبداعياً. يقيم في شقّة في بناية ضخمة، يبدو أنها تقع في ضواحي لندن، في منطقة غير مأهولة بالسكان. هاري (بول ميسكال)، شخص آخر وحيد يُقيم هناك، يأتي إليه ذات ليلة في حالة سكرٍ شديد. بعد محادثة قصيرة، يُبعده آدم بأدب.

في محاولة العثور على إلهامٍ للكتابة، يزور آدم منزله القديم، في ضاحية لندنية أخرى، حيث نشأ. أثناء تجوّله في المنطقة، يصطدم برجلٍ (جيمي بيل) يناديه، كأنّه يعرفه طوال حياته. يبدو الرجل كوالده تماماً. يدعوه إلى منزله، حيث والدته (كلير فوي) أيضاً، التي تُسعد برؤيته. أول ما يثير الغرابة، المتمثّلة بالوجه المندهش لآدم، شباب والديه، اللذين يبدو أنهما في عمره نفسه، أو أصغر منه. تفاجؤ آدم منطقي، فوالداه متوفّيان في الثمانينيات، وكان يبلغ 13 عاماً، في حادثة سيارة. ما الذي يجري، إذاً؟

هذه الرحلات ـ الزيارات إلى "الطفولة" لِلَمّ شمله مع والديه الراحلين، والإضاءة على أشياء لم تُقَل في كلّ زيارة منها (أساساً، إنّه مثليّ الجنس، وأشياء أخرى يُفضّل عدم الكشف عنها)، ستكون أحد محاور القصة. الآخر، الذي يسير توازياً، ويحاول في مرحلة ما التقاطع مع الأول، يمرّ بالعلاقة التي، بعد انزعاجٍ ورفضٍ أوّلي، يبدأها آدم مع هاري، الأصغر والأحَدّ، الذي يحمل بدوره تاريخاً شخصياً ومسلكاً مختلفين للتعامل مع ميوله الجنسية. نشأ آدم في عصر فيروس نقص المناعة المكتسبة والقمع الكبير. لذا، يتعامل مع نفسه بشكل مختلف، ويعيش الأمور بطريقة أكثر حذراً من جاره الأكثر "ليبرالية"، كما يبدو.

بالنسبة إلى آدم، كلّ زيارة إلى والديه ـ حيث يتحدّث، ويتناول العشاء، ويستمع إلى الموسيقى، ويحتفل بعيد الميلاد، ويمضي الليل نائماً إلى جانبهما ـ تؤثّر عليه عاطفياً بطريقة تنعكس في سلوكه اليومي، وفي علاقته بهاري. ليس بالضرورة بسبب الوجود الميتافيزيقي للأخير، إذا جاز التعبير (كالفيلم، يعتبر آدم هذا حقيقةَ فانتازية مُعاشة)، لكنْ بسبب الطريقة التي تكشف بها هذه العلاقة الحميمة الجديدة التي لا يمكن تصوّرها، مع والديه المتوفّيين، أشياء لم يكن يعرفها. هذا يؤدّي إلى معاناة علاقته بهاري من تقلّبات عاطفية مستمرة، تأتي كلّها في "فورمات"، تعيش باستمرار في الحدّ بين الواقع والخيال.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

يسير الفيلم على الحافة دائماً، في منطقة خطرٍ محتمل (غرقاً في روحانيات مجانية، أو نزولاً في بكائيات مبتذلة). لكنْ، هناك قناعة في قصة الحب هذه، والسفر عبر الزمن (من لندن 2023 إلى لندن 1987، في خضم أزمة الإيدز)، ودقّة وسحر يسمحان له بمعالجة قضايا ليست بسيطة، كالمأساة والشعور بالذنب والقبول والغفران والتنفيس والفداء والوداع، في مشاهد مشحونة وعاطفية، تبهر حيناً، وتسكن تحت الجلد أحياناً. إنجاز سينمائي نظراً إلى ما يحقّقه الفيلم، لكنْ قبل كل شيء إلى ما يتجنّبه.

ينبثق التأثير العاطفي الأكبر من محادثات آدم مع والديه، وطريقة توضيحه أموراً حدثت له عندما كانا حَيَّين، وأشياء حدثت له بعد وفاتهما. يميل الوالدان إلى أنْ يكونا طيّبين ومتفهّمين، لكنّهما يكشفان في الوقت نفسه مواقف تُنفّره. يحدث شيء مماثل مع هاري. يعتمد الفيلم على مشاهد صغيرة، دردشات حميمة وتجوال حرّ وقليل من الجنس. باستثناء ليلة واحدة في ملهى ليلي للمثليّين، يبني أندرو هاي عالمه كأنّه لا مكان تقريباً. عالم يحوي إشارات إلى الماضي (الاختيارات الموسيقية المصاحبة مثلاً)، ولا يعرف المرء أبداً متى ينتهي فيه الواقع ويبدأ الخيال. أو العكس.

شكليّا، يُذكّر الفيلم بـ"تذكار" (2019) للبريطانية جوانا هوغ، خاصة الجزء الثاني (2021)، إذْ تعمل القصة العائلية وقصة الحب كنوع من الخيال في الخيال. هناك شيءٌ غير واقعي في النبرة، فـ"الميزانسين" يتجاهل عملياً كلّ شيء بخلاف الشخصيات، وجوهها وأجسادها، ما يجعل كلّ شيء يعمل كما لو كان موجوداً في "ليمبو"، تتعايش فيه الأشباح والبشر. الشيء الحقيقي والأكيد هو العاطفة، خاصة في الطريقة التي يعبّر بها سكوت ميسكال أيضاً. في الطريقة التي تعكس بها علاقتُهما علاقةَ آدم بوالديه وتكملها، يُنجز هاي نوعاً من تقاطع بين الأجيال (والداه ووالدا هاري)، وصعوبات يواجهها مثليّ الجنس في بريطانيا (مع صلات محتملة بجغرافيات أخرى بعيدة).

قبيل نهايته، يُقدِّم الفيلم تطوّراً غير متوقّع، ربما يكون مبالغاً به بالنسبة إلى بعض المشاهدين، لكنّه ربما يكون مُوفّقاً كختامٍ لائق لقصة شعرية مؤثّرة عن الحب والعلاقات. أكثر من أي شيء آخر، هذه قصة عن ضرورة مدّ يد العون إلى الذين يعانون أوقاتاً عصيبة، وتوحيد الإرادات لمحاربة الوحدة، والتحدّث عن الأمور في الوقت المناسب، وعدم تركها لاحقاً إلى وقتٍ غير مؤكّد، وربما مستحيل.

كما تُعبّر معظم الأغاني المسموعة (والعنوان بطريقة ما)، يمكن قراءة "جميعنا غرباء" كأنه دعوة صادقة ومؤلمة إلى عبور تلك الحدود التي تمنع التواصل مع الآخرين، عندما يكونون في أمسّ الحاجة إلينا، أو العكس. أوضح ما في الأمر أغنية "دائماً في بالي" (Always on My Mind)، بنسخة فرقة Pet Shop Boys، التي يغنّيها آدم مع والديه، في وقت ما. الكثير مما أراد أندرو هاي التعبير عنه موجود في كلمات تلك الأغنية الكلاسيكية (الأشياء الصغيرة التي كان يجب أنْ أقولها وأفعلها/ لم أجد الوقت لها أبداً / كنتَ دائماً في بالي)، بطرقٍ غير متوقّعة. حتى عندما، في النهاية، ترتفع كبسولة مليئة بحبّ رجلين إلى السماء، وتنطلق الأوتار في أغنية "قوّة الحب" مباشرة في سطرٍ يقول "اجعل الحب هدفك"، فهذا لا يُشرق من نفسه فحسب، بل أيضاً من خلال شبكية عيون الجمهور المحجّبة بالدموع. للحظة، يُستبعد مصاصو الدماء، لهذه اللحظة فقط.

المساهمون