تتميّز أعمال المُؤلّف والمُغنّي والعَازف الموسيقي الفلسطيني جوان صفدي (1973)، بقدرة مُدهشةٍ على التنوّع والتجديد، إذْ داخل هذا الريبرتوار الفنّي المُتناغم بين الصوت والآلة، يحرص صاحب ألبوم "نمرود" على تقديم أغنيةٍ تلقائية وهادئة، لكن إشكاليّة على مُستوى التفكير فيها، وما تنحته من مساراتٍ جماليّة في تعاملها مع الواقع.
ولأنّ أعمال جوان صفدي لا تُنتج بمعزلٍ عن التجريب الموسيقيّ، فإنّ ذلك جعله حقيقة شهيراً بنمط تشويش الآلة داخل الساحة الفلسطينيّة، إذ تغدو الموسيقى أكثر اختلاطاً وقُرباً من الروك، لما تُظهره موسيقاه من قوّة في إبراز صوت الآلة وسُلطتها على أذن المُستمع.
عن معالم تجربته الموسيقيّة ومدى تجذّرها داخل الأغنية الفلسطينيّة الجديدة، كانت لـ"العربي الجديد" هذه المقابلة معه.
جوان صفدي، أوّلاً، كيف تعيش هذا الزخم الفنّي في جسدك بين العزف والتأليف والغناء؟
كثيراً ما أشعر أنّ الأغاني هي امتداد لي، فهي تولد في رأسي، أعزفها بأصابعي وأغنيها بصوتي. التأليف هوايتي وموهبتي الأولى والرئيسيّة، ويتطوّر معي في كل ثانية. أمّا العزف فجاء في مرحلة متأخّرة. في البدايات كنت أعزف بلا توقّف تقريباً، إلى أنْ توصّلت إلى لغة مشتركة مع الآلة والغناء. منذ البداية وجدت نفسي أغنّي كلماتي بصوتي الطبيعي لأربط بينها وبين اللحن. لست مغنّياً بمعنى الكلمة، بل أتناول الكلمات كمونولوج مسرحي أؤديه بالطريقة التي أسمعها مناسبة.
قُمت بتأسيس فرقة "فش سمك" الموسيقيّة. كيف تأتى لك التفكير في ذلك وما الذي حقّقته الفرقة موسيقياً داخل الساحة الفلسطينيّة والعربيّة ككلّ؟
ببساطة وصراحة، ومنذ الصغر، أحب موسيقى الروك. كنت أجد النشوة في الصراخ وأصوات الدستورشن (تشويش الغيتار) وضربات الدرامز الغاضبة والطاقات العالية. لطالما حلمت بفرقة أعزف معها الروك. مع "فش سمك" تبلوَرت موسيقى الروك العربي الحرّ، التي دمجت بين عناصر من الروك وغيره وبين الموسيقى العربيّة.
كنت أكتب خلال تلك الفترة وأعزف وأغنّي بحرية لم تكن مألوفة أو مقبولة في الأغنية العربيّة. كان صوت "فش سمك" مفعماً بالطاقة المحرّرة والمحرّضة على الحركة والتكسير. كسّرنا تابوهات عديدة، مقامات وإيقاعات. كانت التجربة والاستكشاف والمتعة أكثر ما يحرّكنا. لكن الفرقة للأسف واجهت صعوبة في الإنتاج، ولم تصدر رسميا إلّا أربع أغان، مع أننا أدينا عشرات الأغاني في فلسطين وخارجها، إلى أن افترقنا بعد خمس سنوات، بحكم الظروف ومحدوديّة الأفق التي تصطدم بها فرق الموسيقى البديلة في فلسطين.
ما التقاطعات الفنّية والموسيقيّة بين ألبومك الغنائي "ابعد عن الشرق وغنيله" وبين ألبوم "إجمد"، الذي صدر لك أخيراً؟
يختلف الألبومان في كل شيء تقريبا، مواضيع الأغاني، الموسيقى وحتى طريقة الغناء. مع ذلك، يربط بينهما صوتي وأسلوبي في الكتابة في تلك الفترة. إذ إن أغاني الألبومين كتبت في السنوات نفسها. "إجمد" هو تجربة جديدة تماماً، حيث يعتمد بغالبيّته على الموسيقى الإلكترونية، وكلمات أغانيه شخصيّة محضة، مُترابطة بعضها ببعض، في محورها الحب والخيانة والعلاقات الشائكة. تعاونت فيه مع منتِج شاب هو محمّد أبو أحمد (مهاوش)، الذي أعاد توزيع الأغاني وهندس أصواتها، لتحتضن الكلمات بدفء، وتبرز معانيها، وتكثّف المشاعر التي تحملها، وتعزز لدى المستمع إحساساً بأنه يغوص في أعماق النفس المعذبة، حتى يصعد إلى السطح في نهاية الألبوم.
أما في "ابعد عن الشرق وغنيله"، تجد استمرارية لما بدأته في "فش سمك"، بل إن غالبيّة الأغاني هي مما كنت أعزفه مع الفرقة، بإضافة لمسة درويش السحريّة.
كان أبرز ما يميّز توزيع وإنتاج درويش هو استبدال الدرامز الغاضب بآلات إيقاع عربيّة، تؤدّي تلك الإيقاعات الغريبة، فخلقت تجربة سمعيّة جديدة، كما خفف الدستورشن، ليستبدله بطبقات من الغيتار بعضها فوق بعض، فبدت كطاقة محبوسة على وشك الانفجار في كل لحظة. هذا برأيي يتوافق تماماً مع كلمات الألبوم التي بغالبيّتها تتناول قضايا فلسطينية وعربيّة، في محورها مصادرة الحريّات وعلى رأسها حريّة التعبير، التي أعاني من فقدانها بشكل شخصي. ولعل هذا ما يجعل حتى الأغاني السياسيّة شخصيّة إلى حدّ ما.
في الكثير من أغانيك يحضر البُعد الاحتجاجي لا كوسيطٍ أيديولوجي بين الذات والآلة، وإنّما كموقف ورؤيا من العالم. كيف وعيت ذاتك من خلال هذا العنصر؟
ليس سراً أنّ في الأغاني قدرة كبيرة على إثارة التفكير والجدل وتحريك الناس، لكنّني مع كل الفوائد التي يجنيها صاحب الرسالة من وضع رسالته في أغنية، صراحة، بالنسبة لي لم يكن قراراً واعياً أنّ أكتب أغاني احتجاجية أو سياسيّة، بل أكتب عما يشغل تفكيري ويستحوذ على مشاعري. ولا شك أنّ الواقع الذي نعيشه في فلسطين لا مفر فيه من السياسة وتأثيرها، ولديّ رؤيتي ومواقفي التي تتبلور بالتفكير، ولها انعكاسات على حياتي وبطبيعة الحال لها حضور في أغنياتي، التي تعبّر عن خلاصة أفكاري ومشاعري. كثيراً ما أشعر بأنني متعب من السياسة والمجتمع ولا أريد أن أكتب عنهما، لكنّني أشعر بالذنب إذا كان لديّ ما أقوله وفضلت السكوت.
في موسيقاك، ثمّة تمازج واختلاط الآلات الموسيقيّة على اختلاف أنواعها. إلى أيّ حد يُمكن اعتبار أهمية تجربة جوان صفدي الفنّية تقتصر على التجريب الموسيقي على حساب بساطة الكلمة وشعبيتها؟
أستمع إلى موسيقى بشتى الألوان، ومن كل العالم ومن كل زمان، فمن الطبيعي أن تتأثر ممارستي الفنية بهذا التنوّع. لديّ أغانٍ تحمل رسالة واضحة أعتبرها مهمّة، فأبذل قصارى جهدي كي أقدّمها بأسلس شكل ممكن لتصل إلى الجميع. لكن، في نهاية الأمر، ما يجذبني في الفن هو الخلق والتجديد، لا التكرار والتقليد. التجريب، بالنسبة لي لا يقل أهمية عن الكلمة والرسالة، ولا أعتقد أنه جاء على حساب بساطة الكلمة وشعبيتها. بل بالعكس، إذ إن الكلمات التي أكتبها وتصنيفها في خانة الغريب والجريء، أغفل الأغلبيّة عن التجربة الموسيقيّة المتنوّعة التي أقدمها منذ أكثر من ربع قرن. من جهة، لو كنت حريصا على تقديم الأغاني بالشكل الشعبي أو الرائج، لربما كانت ستتقبلها جماهير أوسع، ومن جهة أخرى لو حصرت نفسي في لون موسيقي واحد، لكونه شعبياً ومضموناً، من دون ابتكار وتطوير، لما وجدت لدي رغبة في الاستمرار طوال هذه السنين.
أغلب أغانيك تحاكي الواقع الفلسطيني، وقد لا يبدو ذلك جديداً بالنسبة للأغنية الفلسطينيّة، مع أنّ بصمتك الفنّية ترتكز بشكلٍ أقوى وأكثر حميمية على الذات. كيف يُمكن استبدال هذه الذات للتعبير عن المجتمع؟
ليست ذاتي مفصولة عن المجتمع، بل أنا جزء منه وأتأثر بما يحل به. عادة لا أكتب أغنية عن موضوع عام ما لم أتأثر به أو يستفزني. أكتب عن ذاتي أو تجربتي مع ذلك الموضوع الذي يخص الجميع، أو يجب أن يخص الجميع، أو أكتب عن شخص ما أو أخاطبه، بدلاً من أنّ أكتب عن الجميع أو أخاطب الجميع. أجد ذلك أكثر لباقة من الوعظ في الأغاني.
يحبل المشهد الفنّي الفلسطيني بالكثير من المسرّات الجماليّة داخل الجيل الجديد. هل تعتقد أنّ التجريب الموسيقي الذي تنطبع به تجاربه، يُعدّ عاملاً مهمّاً في بروز الأغنية الفلسطينيّة داخل مهرجانات عالمية؟
ربما يكون عامل التجريب الموسيقي والتجديد الذي يقدمه الفنّان الفلسطيني هو ما يجذب إليه منظمي مهرجانات عالميّة، وربما تكون المسرّات الجماليّة هي ذلك العامل الجذاب. لا يمكنني أن أجزم بالنسبة للجيل الجديد بأسره، كما لا يمكنني أن أحكم على فرد منهم بحسب ذوقي الشخصي.