يرونها بعيدة، تبتسم، تغمض عينيها، يغمرونها قليلاً، يعلو صوتها... وكأنّهم وُلدوا ثانيةً. هكذا يتعامل معظم الشعب اللبناني مع فيروز.
اليوم، تتمّم جارة القمر عامها الـ90، في ظروف لم تتمنّها أبداً، لكن اعتادتها. 90 عاماً وفيروز تغمر اللبنانيين بصوتها، تحت زخّات الرصاص، ووطأة الغارات. طوال تلك السنوات، تطوّرت استراتيجيات الحرب، باتت الأسلحة أثقل، والبشر باتوا أشرس، هُدّمت منازل وقرى ومدن وأعيد بناؤها مرة تلو الأخرى.
في تلك السنوات، تأرجح لبنان بين حرب عالمية واحتلالات وحرب أهلية وصولاً للحرب الإسرائيلية الحالية. لكل حرب تفاصيلها، وأسبابها، لكن نتيجتها كانت تدميراً أكبر، وشهداء أكثر، وذكريات ممسوحة. الحرب الإسرائيلية على لبنان اليوم غير مسبوقة، بكل تفاصيلها، وبما قد يترتّب عنها، كما حال حرب الإبادة في غزّة.
خصوصيّة لبنان كانت أنّ فيروز مزروعة فيه. وهي كعادتها، تصمت، وتوصينا بالإنصات لأغنياتها، لأنّ كل ما تريد قوله موجود في نغماتها. في العام 1979، أي بعد 4 سنوات من اندلاع الحرب الأهلية التي أهلكت لبنان، خرجت فيروز بمقابلة عبر إذاعة مونتي كارلو مع حكمت وهبي بعد حفل الأولمبيا في باريس.
جالت النجمة في السنوات الأربع الأولى للحرب كمرسال "سلام ومحبة" خلال حفلاتها وأعمالها المسرحية من العراق مروراً بسورية ومصر وعمّان ولندن، وصولاً إلى باريس. "بحب لبنان أكتر من الحكي"، قالت فيروز في مقابلتها التي تتكاثر فيها الأسئلة حول صمتها الدائم. كما حملت رسالة من بيروت المدمّرة إلى الجالية اللبنانية في باريس، ولكل من يرون في فيروز لبنانهم الذي أحبّوه: "قصتنا من أول الزمان يتجرّح لبنان يتهدّم لبنان، بيقولو مات وما بيموت وبيرجع من حجاره يعلّي بيوت وتتزيّن صور وصيدا وبيروت".
"بحب لبنان أكتر من الحكي"
وعندما طُلب منها أن توجّه رسالة للمغتربين اللبنانيين، وأولئك الذين غادروا من وطأة الحرب قالت فيروز: "لبنان ماشي واللي بيتأخر بيروح مطرحه". يمكن لهذه العبارة أن تبدو ساذجة، غير واقعية، لمن لا يريد أن يموت برصاص أو قصف. لكن شخصية كفيروز، ساهمت في رسم صورة للبنان الواحد الأحد الخالي من الخلافات الطائفية والمناطقية. ولو بدا هذا النقاش سخيفاً أو ساذجاً، أي صور "العيش المشترك" التي تعب منها اللبنانيون، إلا أنّها كانت ولا تزال ضرورية في تصويرها والاستناد إليها بأيقونة المغنية النجمة.
لم يترك الربيع لبنانه، كما ذكرت فيروز في المقابلة، رغم اشتداد الحرب حينها. إلا أنّها تعبّر عن شعور العودة إلى البيت، كسائر اللبنانيين. "رجعت لبيتي بس كان عندي شعور مختلف عن كل السنين اللي مرقت، صرت حس بحسرة لان صرت غنّي لبنان وأنا بعيدة عنه، بحب لبنان أكتر من الحكي"، تقول فيروز. هي التي وظّفت صوتها لإيصال رسائلها دعماً للبنان واللبنانيين وحاملةً شعلة السلام، التي سُحبت من جذورها طوال السنوات الأخيرة. كمثل اللبنانيين الذين نسف الاحتلال الإسرائيلي منازلهم وقراهم، تخاف فيروز على بيتها. ليس لأنها فيروز، بل إن هذه المقاربة تقرّب صورة فيروز، وتجعلها أكثر ارتباطاً بذاكرة الناس، خصوصاً بأوقات الحرب.
بيت فيروز تحت القصف
في السياق نفسه، سأل الصحافي السوري توفيق الحلاق فيروز في مقابلته العام 1989 عمّا إذا كان منزلها في بيروت قد تعرض للقصف. خفضت رأسها، وأكدت ذلك مع ابتسامة خفيفة على وجهها.
قالت فيروز خلال المقابلة التي أجريت على شرفة فندق ماريوت مينا هاوس في مصر أمام الأهرامات: "لم نكن نستطيع دخول البيت بشكل طبيعي، كنا نجلس فقط في زاوية منه". فرد الحلاق بدهشة: "تبتسمين رغم الكارثة!" لتجيبه فيروز، ببرود: "ليس هناك خيار آخر". وإذاً كيف لهذه الأيقونة أن تتعامل مع القصف؟ "أثناء القصف بزيد سكوتي وبصلّي، متل كل الناس"، تقول فيروز. الشر كبير، يعني الإنسان هو صاحب الأشياء العظيمة، نفسه صاحب التدمير بنفس الوقت، هكذا ترى فيروز سبب استمرار الحروب. ولكن "الخير دائماً ينتصر".
في مقال كتبه في العام 2016، روى الحلاق كواليس مقابلته التاريخية: "قالت لي سلمى إن بيت فيروز في المنطقة الشرقية من بيروت تعرض لقذائف عشوائية من المتقاتلين ما اضطرها للانتقال إلى بيتها الثاني في المنطقة الغربية، الذي ما لبث هو الآخر أن تعرّض للقذائف ولم يبق منه سوى غرفة واحدة عاشت فيها مع ابنها هالي وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة".
أيام الحرب الأهلية المشؤومة، أخذت جزءاً أساسياً من حياة فيروز التي كانت أماً، وفنانةً وأيقونة وطنية. وفيروز أيضاً مختلفة بأمومتها، هي التي لا تزال أماً لهالي، التي لم تقبل إلا نفسها أن تكون معيلةً له حتى اللحظة. وأنجبت العبقري زياد، الذي كسر قدسيتها وحولها لفيروز الشعبية والشبابية. فيروز، الأم اللبنانية التي عايشت الحروب وغنت لشعبها ونفسها.
في مقابلة العام 1994 مع قناة بي بي سي، اختصرت فيروز رحلة غنائها. "ما بعرف لوين بروح بس بلّش غنّي، بحس انه بصللّي بس غنّي". كثيرة هي تلك الأغاني التي يشعر فيها اللبنانيون بأن فيروز تخاطبهم، وتطبطب لهم. هي جسدت معاناة الناجين من الحرب… حيث تكررت معاناتهم مراراً. وهم يشغلون الأغاني نفسها، يعانقونها، ترثي فيها فيروز بيوتهم.
في العام نفسه، أقامت حفلها الشهير في ساحة الشهداء في بيروت، بعد الحرب الأهلية بأربع سنوات، تأكيداً على وحدة اللبنانيين. أعلت فيروز في صوتها شعلة الحرية والكرامة لـ50 ألف شخص حضروا الحفل استرجاعاً للبنان اللاحرب، والذي غالباً ما يجدونه بفيروز. غنّت فيروز لكل المكونات اللبنانية "يا حرية":
"صَرخوا عالعالي... عَلى العالي
اركضوا بالحقالي... عَلى العالي
قولوا للحرّية نحنا جينا وافرحوا
افرحوا"
وظّفت صوتها لكل الشعوب المتهالكة، باستثناء الطغاة ودعاة الحرب والتهجير والتدمير. تتحسر في أغنية "سكروا الشوارع" في العام 1979: "رجعت على بيتي ما لقيتو لبيتي، دخان زوايا لا وردة ولا سور". تلك الأغنية يعاد تداولها بين أواسط اللبنانيين، وكأنهم يتحدثون مع فيروز، وتشاركهم مأساتهم.
فيروز وجنوب لبنان
غنّت فيروز لجنوب لبنان أيضاً. وإذ بات الجنوبيون يتأملون قراهم تلقى عليها القذائف المدفعية والغارات وتُحرق أرضهم وزيتونهم، يستندون إلى أغاني فيروز. مجّدت فيروز الجنوب بأغنيتها "إسوارة العروس" التي طرحتها في العام 1989 من كلمات جوزيف حرب وألحان فيلمون وهبي.
"وشو ما إجا شعوب... وشو ما راح شعوب
كلُّن راح بيفلّوا... وبيبقى الجنوب"
كذلك، غنّت للمناطق التي تُقصف خلال الحرب الإسرائيلية الحالية، وكأن التاريخ يعيد نفسه، وقدّمت أيضاً نشيد المقاومة الوطنية اللبنانية في بيت الدين في العام 2000.
"خلصوا الأغاني هني ويغنوا عالجنوب
خلصوا القصايد هني ويصفوا عالجنوب
ولا الشهداء قلوا ولا الشهدا زادوا
وإذا واقف جنوب واقف باولاده".
وفي الوقت الذي طاول فيه قصف الاحتلال بعلبك واقترب من قلعتها التاريخية، شارك اللبنانيون "يا قلبي لا تتعب قلبك" و"بعلبك أنا شمعة على دراجك". كما غنّت للعاصمة بيروت أكثر من أغنية أبرزها "لبيروت" و"بيروت هل ذرفت عيونك دمعة".
90 عاماً وعصفورة الشرق نراها تحدّثنا من بعيد، وبقرب، نستند إليها، تبكينا، وتشعرنا بالأمان. 90 عاماً، أي أكبر من إسرائيل التي تمحو ذكريات وطن بأسره وتنسف ذكرياته. حبيبتنا فيروز، سيبقى صوتها يصدح في أرجاء العالم، حيث تشتّت الفلسطينيون واللبنانيون في نكبتهم الجديدة. لعلّ لتلك الشعوب، التي تعاني من اضطراب الحنين، أن تجد في فيروز صوتاً يشغّل وتينها. "وحدن بيبقوا" هي الأغنية الأبرز في تعزيز هذا الاضطراب.
إلى فيروز في عامها التسعين، غريبٌ كيف لصوتك أن يخلق عالماً متكاملاً بذاته، وكيف تنطفئ في حضوره كلّ الحروب والفتن والكراهية. غريبٌ ذلك الصوت المحلّق في الأعالي، الذي يعصف بالنفوس ليوقظ الضمائر الغافية، ويمسح عن الأرواح أوجاعها. فيروز، في قمرها التسعين، لا نريد لهذه الأسطوانة أن تتوقف، ولا لهذا السحر أن يزول.