رحلت الأسبوع الماضي بالمستشفى العسكري في مدينة الرباط الفنّانة والمُغنّية الشعبيّة المغربيّة خديجة البيضاوية (1953-2022)، وأسدلت معها ستار فصلٍ طويل من تاريخ الأغنية الشعبيّة، في ما يتّصل بها من غناء العيطة (العيطة تقليدي مغربي فنّي يجمع بين الشعر الشفوي والموسيقى التراثيّة)، باعتبارها من الألوان الغنائية التي يحبل بها المغرب. خديجة البيضاوية لم تكُن مجرّد رقمٍ في تاريخ الأغنية المغربيّة، وإنّما صوتاً مُؤسّساً في مسار هذا الفنّ الجريح، الذي لطالما همّشته المهرجانات الرسميّة.
لهذا تُعدّ البيضاوية رائدة من روّاد فنّ العيطة المرساوية، فإلى جانب صوتها المُذهل والجريح، فإنّ لون العيطة المرساوية استطاع أكثر من أي لونٍ آخر الانصهار مع وجدان الاجتماع المغربي بسبب تعدّد آلاته الموسيقيّة وقُدرته مُبكّراً على الدخول إلى التسجيل الإذاعي، ما جعله قريباً من الناس وسهل ذيوعه وانتشاره في المغرب. وقد تكون البيضاوية حالة استثناء داخل فنّ العيطة، ممّن استطعن تملّك الجرأة والخروج من قفص الأعراس وسراديب الحفلات، صوب عالم التلفزيون الرسميّ، وذلك من خلال عشرات الأغاني المُسجّلة منذ الثمانينيات أو حتّى بالنسبة لسهرات يوم السبت الكثيرة التي أدّتها خديجة البيضاوية رفقة أوركسترات مغربيّة مُتنوّعة.
عنف المجتمع الأبوي
تاريخياً، لم يكُن سهلاً على صاحبة "الله غالب" غناء العيطة، بسبب عادات العائلة وعنف المجتمع الأبويّ في تحديد مواضعاتٍ مُسبقةٍ بالنسبة للمرأة. لكنّ عشق الفنّانة للغناء دفعها منذ منتصف السبعينيات إلى تشرّب الحرفة على يد الكثير من الشيخات اللواتي عملن على تكريس هذا الفنّ، بوصفه تراثاً مغربياً محضاً، له أبّهته وقوانينه الموسيقيّة وشروطه الفنّية وخصائصه الجماليّة. ففي الوقت الذي كان يُعرف الغناء الشعبيّ بأسلوبه المعاصر المُبتذل والرتيب، كما نعثر عليه عند سعيد الصنهاجي والحاج عبد الموغيت وعادل الميلودي، ظلّت العيطة تعيش ضرباً من اللامفكّر فيه. لكنْ ما لم ينتبه إليه نقّاد الفنّ أنّ المسألة ليست جماليّة، وإنّما فكرية وبنيويّة عميقة لها علاقة أساساً بطبيعة الفكر الفنّي الذي يتعامل مع هذا الموروث الغنائي الشعبي، باعتباره وُلد في الهامش، بعيداً عن مسارات التاريخ، وبالتالي، لا يُمثّل جوهر الثقافة الشعبيّة المغربيّة.
عودة تراث العيطة
ظلّ غناء العيطة منسياً ومُهمّشاً وبعيداً عن المهرجانات الرسميّة، التي باتت تولي أهميّة كبرى للأغاني المعاصرة ذات النّمط الاستهلاكي ـ الترفيهي، مُتناسية كلّ مُمارسةٍ غنائية حقيقيةٍ من شأنها أنْ تُقدّم صورة مُغايرة للمشهد الغنائي المغربيّ اليوم، المشهد الغارق. إذْ لسنواتٍ طويلة ظلّ المغاربة بمنأى عن التنقيب ودراسة المتون الشعرية لهذا النموذج الغنائي الشعبي، قبل أنْ يأتي حسن نجمي ويُخصّص دكتوراه لغناء العيطة. وعمل على استنطاق نصوص العيطة وفق مناهج غربيّة معاصرة. إنّ هذا اللون الغنائي التراثي يفرض اليوم نفسه بقوّة على تاريخ الأغنية المغربيّة، لكونه فنّاً مُؤسّساً لفعل الغناء وليس غناءً تربّى ونشأ في الهامش، بحكم ما لعبه شيوخ العيطة من دورٍ فعّال في طرد المُستعمر والمُساهمة إلى جانب الجنود في مقاومة الوجود الأجنبي منذ بدايات القرن الـ20.
مشاركة مع أعمدة الطرب
بزغ نجم صاحبة "علاش بليتيني" و"خارجة من ليسي" منذ منتصف السبعينيات على خشبة المسارح المغربيّة، بعدما شاركت الفنّانة كبار وأعمدة الطرب العربيّ في إحياء حفلاتٍ مُعتبرة، رفقة روّاد تركوا علامة كبيرة في الموروث الغنائي وجعلوه يدخل عصر الحداثة الفنّية من باب الموسيقي. بيد أنّ خديجة البيضاوية لا تدّعي قُدرتها على تجديد هذا اللون الغنائي، لكنْ ما تعرفه جماهيرها، هو مدى تمكّنها من أداء أغانٍ صعبةٍ بسبب صوتها المُتناغم الذي جعلها طوال سنوات تنسج علاقة خفيّة مع وجدان المُستمع. إضافة إلى قدرتها على بثّ روح رقيقة في هذه الأغاني. ورغم المرض الذي ألمّ بها في الشهور الأخيرة، ظلّت البيضاوية مُتوهّجة في دواخلها مثل شمعةٍ تُنير درب العديد من شيوخ وشيخات فنّ العيطة في المغرب.
شعر شفوي
وإذا كانت الراحلة قد شغلت لبرهةٍ من الوقت الساحة الغنائية، فلأنّها تتوفّر على مواقف قويّة وصوتٍ ناعم وطريقة ذكية في إحياء أغاني العيطة وفق نمطٍ مرساويّ، لا يتعامل بحذرٍ مع الآلة الموسيقيّة، وإنّما يُطلق العنان لمُتخيّلها، ويحقق التوازن بين الغناء والعزف وبين الموسيقى والكلمات. لذلك فإنّ المُستمع للعيطة المرساوية سيتلمّس عن كثب بعضاً من مظاهر التشابه مع غناء الشعبيّ الذي يُغنّى الآن داخل الحفلات والأعراس والمواسم، إلا أنّ تجربتها لا يمكن أن تختصر في الأعراس والحفلات الشعبية. وبما أنّ مُنطلقات هذا الأخير من حيث التأليف هشّة وضعيفة، فإنّ الأغنية المرساوية تظلّ تُحافظ على براعة الكلمة وسحرها في التأثير على المُستمع المغربيّ، من خلال عنايتها الكبيرة بالمُعجم الغنائي واستخدام كلماتٍ وعبارات قريبة من فنّ الملحون، بما أنّ أساس أغاني العيطة يبقى شعراً شفوياً.