بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
في بلدة كفرشيما الوادعة، النائمة على كتف مطار بيروت الدولي، ولد عصام رجّي سنة 1944. هذه البلدة أهدت لبنان والعالم العربي كوكبة من المواهب الفنية والأدبية تحوّلت إلى أسماء شهيرة. علماء اللغة العربية: الشيخ ناصيف اليازجي وولده إبراهيم. الصحافيان الأخوان سليم وبشارة تقلا مؤسسا الصرح الصحافي العتيق في مصر، جريدة "الأهرام". سلالة الصحافيين من آل الشميّل، أولهم رشيد مؤسس جريدة "البصير" في الإسكندرية، وعمّه شبلي شميّل الطبيب والمفكر والشاعر ومُعَرّف العرب بنظرية داروين. الشاعران إلياس فرحات وجورج رجّي الذي احترف الصحافة أيضاً وأصدر جريدة "الراصد". ومن أهل النغم: الملحن والممثل فيلمون وهبي، عصام رجّي، ملحم بركات، ماري سليمان، وحليم الرومي الذي استوطن كفرشيما وفيها ولدت ابنته المغنّية ماجدة الرومي.
نشأة عصام رجي الفنية انطلقت من مساهمته في برنامج "الفن هوايتي" في تلفزيون لبنان. غنّى بصوته الجميل، ما فتح له باب الدخول إلى فضاء الغناء. بدايته الاحترافية كانت مع الأخوين رحباني منشداً في الكورس، لا يميّز المستمعون صوته تحديداً. لكنهما اكتشفا جمالية صوته فأعطوه بعض الألحان التي أدّاها بصوته مثل "ازرع ازرع".
المخرج والمنتج روميو لحود هو الذي أعطى عصام رجي فرصة تقديم نفسه للجمهور مغنّياً أساسياً. كان روميو لحود قد أسس فرقة لتقديم العروض المسرحية الغنائية في مسرح فندق فينيسيا في بيروت. وافتتح مسرحه سنة 1963 بمسرحية "الشلال" من بطولة صباح وجوزف عازار وسمير يزبك. وفي موسم 1965 قدّم روميو لحود مسرحية "موال" من بطولة جوزف عازار وسمير يزبك، والصوت الجديد: عصام رجي. غنّى لأول مرة "بُكرا لمّا تفلّ الغيمة" من ألحان وليد غلمية، وأعطاه روميو من ألحانه "هبّي مع الهوا". وانضم اسم عصام رجي إلى قائمة المغنين المعتمدين في الموسيقى اللبنانية.
في السنة ذاتها، قدّم روميو لحود العرض الموسيقي الغنائي في مهرجانات الأرز. وجرى العرف أن يُفتتح المهرجان بتحية إلى جبران خليل جبران، ابن المنطقة. في موسم 1965 ارتأى روميو تقديم قصيدة "أيها الشحرور غرّد" وكلّف وليد غلمية تلحينها وأنشدها المطرب الصاعد عصام رجي. وفي بعض أبياتها تشابه مع أبيات من قصيدة جبران الطويلة "المواكب" التي غنّت فيروز بعض أبياتها بلحن نجيب حنكش وعُرفت الأغنية باسم "أعطني الناي وغنِّ". والأرجح أن جبران نظم القصيدة القصيرة أولاً، ثم استلّ منها أشطراً ضمّنها مطوّلته "المواكب" مثل: فالغنا سر الوجود (...) في كؤوس من أثير (...) مُعرضاً عما سيأتي/ غافلاً عما مضى. والبيت الأخير أصبح: زاهداً فيما سيأتي/ ناسياً ما قد مضى. ولم ينشر جبران قصيدة "الشحرور" في كتبه، وهي وردت في كتاب "البدائع والطرائف" الذي جمعه يوسف البستاني من كتابات جبران المنشورة في صحف مختلفة. وكانت فيروز قد غنّت "أعطني الناي" بتوزيع الأخوين رحباني في مهرجان الأرز موسم 1964.
في موسم 1966 في مسرح فينسيا أخرج روميو مسرحية "ميجانا". وكان زكي ناصيف أحد المساهمين في التلحين، فأعطى عصام رجي لحنه الشهير الذي ذاع بصوت وديع الصافي "طلّوا حبابنا". وواصل روميو لحود إسناد الأدوار إلى عصام رجي في مسرحياته وخصّه دائما بأغنية ينشدها منفردًا بصوته. ووقف عصام رجي على أدراج قلعة بعلبك مشاركًا في مهرجان "القلعة" (1968) وفي هذا العرض غنّى "قديش قضّينا سوا" من كلمات روميو وبلحنه مع مقدمة موسيقية من وليد غلمية. حضرت كصحافي بروفات هذا المهرجان، وخلال جلسات التمارين هذه، عرفت عصام رجي، ونشأت صداقة بيننا.
وتميّزت مشاركة عصام رجي في مهرجان "الفرمان" (1970) عمّا سبق بأنه قدّم لأول مرة أغنية من تلحينه أنشدتها بطلة المسرحية مجدلى، أغنية "غريبة". وفي المسرحية ذاتها غنّى من كلمات ولحن روميو لحود "تغيّرتي كتير علينا". وفي الموسم التالي اشترك عصام رجي في مهرجانين كبيرين: بعلبك والأرز. وكلاهما من إنتاج روميو لحود أيضاً، إلى جانب صباح وسمير يزبك والنجم الكوميدي شوشو. في بعلبك مغناة "مهرجان" وفي الأرز "العواصف" وهذه عن قصة قصيرة لجبران خليل جبران قمتُ بتحويلها إلى نصّ مسرحي كتبتُه بالاشتراك مع ألين لحود. في هذين المهرجانين تضاعفت مساهمة عصام رجي المغنّي والملحّن. من ألحانه غنّى أغنيته "فوق الخيل" وغنّى "ميجانا ع الميجانا" بلحن زكي ناصيف. والأهم أن صباح أنشدت في العرضين ألحاناً وضعها عصام رجي ومنها: "معلّق ومطلّق" و"لمّا ع طريق العين".
روميو لحود هو من أعطى عصام رجي فرصة تقديم نفسه للجمهور
نجاح هذه الأغنيات ورواجها الكبير كانا لمصلحة عصام رجي، وفتحا له فضاءات أخرى. شارك مجدداً مع روميو لحود في المسرحية الغنائية "فينيقيا 80" التي قُدّمت على خشبة مسرح المارتينيز في بيروت سنة 1972، وفيها غنّت صباح من ألحان عصام رجي: "سعيدة ليلتنا سعيدة" و"رزق الله على إيامه"؛ كما غنّت "يا ناس الدنيي دولاب" في مسرحية "المواسم" التي أخرجها روميو لحساب تلفزيون لبنان. وكان ذلك آخر تعاون في المسرح الغنائي مع روميو لحود. افترقا على صداقة، وسمعت عصام رجي غير مرّة يقول لي "روميو صاحب فضل عليّي".
ربطت الصداقة ما بين عصام رجي وشوشو منذ مشاركتهما معاً في المسرحية الغنائية "الفرمان"، ومن بعدها في مهرجانَي بعلبك والأرز سنة 1971. وحلّ عصام رجي ضيفاً في مسرحية "وصلت للتسعة وتسعين" التي قدمها شوشو في مسرحه ربيع 1973، وكانت من كتابتي وإخراج محمد سلمان. في هذه المسرحية غنّى عصام رجي من ألحانه: "ع الهيلا الهيلا" و"شدّوا الهمّة يا شباب". وكانت المرّة الأولى التي أضاف فيها "مسرح شوشو" الأغاني إلى عروضه المسرحية. وكان شوشو في تلك الفترة يقدم لجمهور الأطفال مسرحيات خاصة بهم. وفي كل مسرحية أغان، كتبها جميعاً ميشال طعمة ولحنها إلياس الرحباني، ما عدا أغنيتين للأطفال غناهما شوشو بألحان عصام رجي. وكنا كلّ ليلة بعد العرض المسرحي ننطلق إلى الروشة: شوشو وعصام رجي ومحمد سلمان وأنا. وينضم إلينا بعض ممثلي الفرقة، وبعض أفراد فرقة الدبكة التي ترافقه، ومنهم أخوه اسطفان رجّي، وألان مرعب، الذي كان يحفظ أشعار خليل روكز جميعها ويردّد بعضها على مسامعنا.
كان عصام رجي ذكيّاً في اختيار أغانيه، وفي تأليف الألحان التي تلقى قبولاً كبيراً من جمهور المستمعين. كان يدرك جيّداً ذائقة الجمهور. وكانت لديه رغبة دائمة في التعلّم والإفادة من تجارب الكبار الذين سبقوه، والذين غنّى ألحانهم قبل أن يصبح ملحّنَ أغانيه، من الأخوين رحباني إلى روميو لحود مروراً بزكي ناصيف ووليد غلمية. ولم يكن لديه مانع من أن ينشد ألحان الآخرين، حتّى بعدما أصبح ملحناً مشهوراً يقدم ألحانه لغيره من أهل الغناء. ومن هذا المنطلق، غنّى "هزّي يا نواعم" بلحن فريد الأطرش، وأعاد غناء لحنين لزكريا أحمد كانت أم كلثوم قد غنتهما من قبل: "يا صلاة الزين" و"غنّيلي شوي شوي". وعرفت هذه الأغنيات الثلاث نجاحاً كبيراً، استشعره مسبقاً عصام رجي بحدسه الصحيح.
اشترك عصام رجي في الأفلام السينمائية، ضيفَ شرف يؤدي أغنية، وأطلّ في سنة 1973 في ثلاثة أفلام: "ملكة الحب" إخراج روميو لحود وبطولة النجوم المصريين حسين فهمي وعادل أدهم وناهد يسري، وفيه غنّى عصام "يا صلاة الزين". وشارك في فيلم "الجائزة الكبرى" من إخراج سمير الغصيني، ثم غنّى "الله الله يا حياتي" في فيلم "مسك وعنبر" من إخراج أحمد ضياء الدين وبطولة نبيلة عبيد وأحمد رمزي. ومرة ثانية في فيلم للمخرج المصري نفسه "مراتي مليونيرة" وكان من بطولة دريد لحام ونهاد قلعي ونبيلة عبيد.
ارتقى عصام رجّي من رتبة المغني الشهير إلى المغنّي النجم. افتتح نادياً ليلياً باسمه "نادي عصام رجي" وكان مقره في حيّ الروشة في بيروت بجوار المطعم الأرمني ماسيس ومقابل مقهى دبيبو. وأصبح المنتج المستثمر. في هذا النادي كان يغني كل ليلة. أنشد أغانيه التي ذكرتها سابقاً، ويضاف إليها "لاقيتك والدنيا ليل" و"يا سمرة يا تمر هندي".
ذات ليلة كنت ساهراً في مقهى دبيبو مع محمد سلمان. كان منسجماً، يردد الأبيات الشهيرة "أعلّمه الرماية كل يوم، فلمّا اشتدّ ساعده رماني". ثم غنّاها بأسلوب المقام العراقي. وترجم المعاني إلى مطلع أغنية بالعامية اللبنانية: "بيسألنا عن درب الحب دلّيناه/ وعلّمناه أسرار القلب وفهّمناه/ لمّا تعلّم صار معلّم/ أول سهم بقلبي رماه". وكان عصام رجي انتهى من وصلته وخرج من ناديه وعبر الشارع إلى الرصيف المقابل وانضم إلينا في المقهى. سمع ما يدندنه محمد سلمان. أعجبته الفكرة وقال "تصلح لأغنية". وسأل محمد سلمان "تبيع؟" قال "بكم؟" قال عصام "500 ليرة". وافق سلمان فوراً. نفحه عصام رجي المبلغ عدّاً ونقداً، وتنازل سلمان عن المشروع. وجعلاني شاهداً على الصفقة. أعطى عصام المطلع إلى الشاعر ميشال طعمة فأكمل المقطعين التاليين، كما أكمل عصام رجي اللحن ووضع المقدمة الموسيقية واللوازم وتولّى التوزيع الموسيقي.
في دمشق التقيت عصام رجي ووجدنا العزاء في ذكريات الزمن الجميل في بيروت
ثم اندلعت الحرب في لبنان سنة 1975 والتهمت نيرانها كلَّ جمال. سكتت حناجر المطربات والمطربين. ارتفع أزيز الرصاص وقصف المدافع ودويّ القنابل. توقفت الأشغال وأولها أشغال الفنون. هاجرت جماعات من الفنانين أسراباً حطّت في العواصم العربية. وكانت دمشق أقرب محطة، وكان عصام رجي في قافلة الفنانين الذين أقاموا فيها آنذاك. استقطبت النوادي الليلية نجوم الغناء اللبنانيين. هنا عصام رجي، هناك جورجيت صايغ. في مربع ثالث وليد توفيق، وفي رابع جوزف صقر. ملحم بركات أيضاً ونصري شمس الدين، ولا أنسى وديع الصافي. كان ذلك في ربيع 1976. آنذاك كنتُ أيضاً من المهاجرين، أتيتُ إلى دمشق من عمّان. آنذاك التقيت عصام رجي ووجدنا العزاء في ذكريات الزمن الجميل في بيروت.
وكانت هجرات أهل الفن آنذاك متنقّلة بين المدن العربية. في العاصمة الأردنية عمّان، التقى عصام رجي بالفتاة التي أصبحت زوجته، فاستقر في الأردن، وأسس شركة للإنتاج الفني واستوديو للتسجيلات الصوتية.
وكانت أول عودة فنيّة له إلى بيروت سنة 1982 عندما اشترك في الاستعراض المسرحي "هالو بيروت" من تأليف وتلحين مروان وغدي الرحباني. وكان أول عمل من لون "الميوزيك هول" فيه غنّى من ألحانه أغنيتين وموالاً. أغنية "البنت بتكبر قبل الشاب" و"يومين وشهرين ما شفتك". كما غنّى بلحن إلياس الرحباني "لاقيني عشيّة"، وبقية الأغنيات للأخوين مروان وغدي الرحباني، ومنها "كل ما بسمع هالغنيّة" و"اتركوني خلّوني روح". كان هذا الاستعراض من تقديم الاعلامي رياض شرارة، الذي غنّى أيضا "مين عذّبك" لمحمد عبد الوهاب و"طالعة من بيت أبوها" لناظم الغزالي.
وكانت أغنية "لعل وعسى" آخر لحن له، غنّاه نور مهنا سنة 1999. وكان عصام رجي في مسيرته الفنيّة اسما على مسمّى، عصاميا شقّ طريقه بجهده، لكن الرحلة توقفت في منتصف الطريق. سكت قلبه في بيروت سنة 2001، وانتهى الحلم الجميل قبل الختام.