لما رأى الأميركيون سيتار رافي في أول حفل له في الولايات المتحدة عام 1957، أصابهم شيءٌ من الالتباس. بحسب صحيفة "ذا تايم"، بدت لهم آلته التي احتضنها بين ذراعيه متربعاً على الأرض، كغيتارٍ عملاقٍ ممسوخ. بطنه تجويفٌ مكوّر من خشب، كحبة كستناء زُوِّقت ببديع الزخرفات المغولية. يتفرع عنه مقبض طويل، شُدّت عليه من ثمانية عشر إلى واحد وعشرين وتراً. عُقدت الأوتار حول مفاتيح تفاوتت في بعد بعضها عن بعض، واستقرت على عتبات من نحاس ترسم الحدود بين أبعاد النغمات. أعلى المقبض، من الخلف، جوزة مجوفة خشبية صغيرة على هيئة سماعة، وأربعة مفاتيح كبيرة، أشبه بحبات فطر سحري.
أما أثر صوتها على آذانهم، فكان أغرب وقعاً وأشد أسراً وسحراً. عناقيد أنغام ولوالب إيقاعات مُعجِزة في تعقيدها وتراكيبها، تذهب بالمُستمع إلى متاهات تأملية ما من نهايات لها. انزلاقات الأصوات بين العتبات الصوتية تتناهى كرحلات مكوكية بين أفلاك ومجرّات، فيما صوت صندوق الشروتي (Shruti Box) السحيق والممتد، يُسمع في الخلفية كأنه هديرُ الكون. صدمة ثقافية حقيقية، وإن بنكهة الحلم، كانت قد ألمّت بالأميركيين، حين اعتلى مسارحهم لأول مرة عازف السيتار والمؤلف الهندي رافي شنكار (1920 - 2012).
إلا أن سرّ نجاح الأسمر الهندي الوسيم، على أعتاب العقد السادس من القرن العشرين، لم يكمن في سحر السيتار وحده، بل في التوقيت؛ إذ كان جيل الشباب في الغرب، بما فيه الولايات المُتحدة، قد بدأ مسيرة الخروج على البُنى الاجتماعية المُحافظة، من بورجوازية وبيروقراطية وتكنوقراط، التي ارتبطت بإرث الحربين العالميتين الأولى والثانية.
خروجٌ ترافق مع نزعات تحررية سياسية ومدنية، معادية للعسكرة والرجعية والهيمنة الإمبريالية، وثقافية تُناهض مظاهر الحياة التقليدية التي ميزت الحداثة منذ العصر الفيكتوري منتصف القرن التاسع عشر، وتتوق إلى سبر مجالات سيكولوجية تتجاوز من خلالها رجاحة العقل ورباطة الجأش التي عبّرت عن الفكر الغربي منذ عصر التنوير. ثقافة تسعى لخوض رحلات روحية تخترق مجال الوعي، من طريق الموسيقى والرقص. ولأجلها، تستعين بالمُكيّفات كالمخدرات وعقاقير الهلوسة.
لم تكن هناك من استجابة لتلك المرحلة الجديدة، أفضل من موسيقى الراغا الهندية؛ إذ تناهت إلى الأذن الغربية المستشرقة، ألحان دوّارة سيّالة، ماورائية، عجائبية ولاأدرية، بعيدة كل البعد عن كتل المُنشآت الهندسية العمودية والهرمية المميّزة للموسيقى الكلاسيكية الأوروبية. كذلك فإنها، أيضاً، قد سُمعِت بوصفها أصداءً لفلسفات الشرق، التي أخذت تُلاقي رواجاً بعيداً عن بلاد الصين والهند، وتحاكي مزاج الغرب في باريس ولندن وكاليفورنيا، كالهندوسية والبوذية والممارسات الذهنية والبدنية المنبثقة منها، مثل اليوغا والتأمل والفنون القتالية الآسيوية.
ضمن تلك البيئة الغربية المُنفتحة ثقافياً على النائي الإيكزوتيكي، بدا رافي شنكار، على وجه الخصوص، بين أقرانه من الموسيقيين الهنود، السفير الأمثل لموسيقى الراغا. ليس لشرقيته أو هنديته، التي كانت بطبيعة الحال أصيلة، بل لسمات في طموحه الشخصي، وكل من الأداء والوسائط التعبيرية لديه، بدت موائمة بشكل خاص للذائقة الغربية في أوروبا وأميركا.
هو الذي بدأ أولى الخطى على مشوار الفنون الهندية، كراقص في فرقة أخيه أوداي. وعند بلوغه سنّ الرابعة عشرة، صمّم على تعلّم السيتار. لأجل ذلك، سافر إلى إقليم راجستان، معقل الراغا. هناك، انصرف إلى التمرّن على آلته لمدة أربع عشرة ساعة في اليوم. مسلكٌ، صقل براعته الآلية لحدود استثنائية من الإجادة التقنية، لجهة السرعة والتنسيق بين حركتي الذراعين واليدين. من شأن ذلك، أن قرّب أسلوب عزفه من مفهوم البراعة، كما يتصوره الأوروبيون (Virtuosity).
بذلك، حين أدى الوصلات الارتجالية الطويلة على المسارح الأوروبية والأميركية، كان يُدخل إلى القلوب النشوة الطرب بقدر ما كان يولّد في النفوس الحماسة والإثارة. كلّ من انسيابية الانتقالات النغمية للمقامات الهندية، وإبهار تقنياته في عزفه على السيتار، ذكّر الأذن الغربية بموسيقى كانت أيضاً صاعدة في تلك الآونة، وتعتمد بدورها على السرعة والبراعة وتبدّل الانسجامات الحاد والسريع، إضافة إلى تركيب الإيقاعات الناظمة لها وتعقيدها، ألا وهي موسيقى الجاز، والـ بي بوب تحديداً، بتفرعاته الأكثر عصرية وغرائبية، كالجاز الحر (Free Jazz) والجاز الخليط (Fusion).
تلك الوصفة التي تجمع بين الطرب والإبهار، جعلت من شنكار "عراب موسيقى الشعوب" كما وصفه عازف الغيتار في فرقة البيتلز. أما موسيقى الشعوب (World Music)، فهو مُصطلح إشكالي يُشير إلى موسيقات العالم الفلكلورية والتقليدية المختلفة. فمن خلاله، تبدو المؤسسات الرسمية الغربية كأنها تسعى لرسم حدود جيوثقافية بتصوّر هرمي كولونيالي، يفصل موروث العالم المتنوع، من فنون موسيقية، عن سيرورة الحداثة الغربية المتمثلة بالموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، بتياراتها المعاصرة والجاز الأميركي المتفرّع عنه.
ذلك الغزل الثقافي، إزاء الأذن الغربية، الذي أجاده رافي شنكار، ليس عن قصد أو قلة دراية بالضرورة، بل بدافع الطموح في الوصول إلى العالمية، ومقارعة أعلام الموسيقى الكبار على الساحة الفنية الدولية، لم يكن من دون تداعيات وآثار جانبية، طاولت شخص "عراب موسيقى الشعوب" ذاته. إذ إن مشاهد الغربيين من الـ "هيبيز" أيام الستينيات والسبعينيات، وهم يرقصون على إيقاعات الراغا وأنغام السيتار أنصاف عراة وسكارى، لم ترق شريحة واسعة من موسيقيي الهند وأقطاب مؤسساتها الدينية والثقافية.
وجد هؤلاء في اختراق سيتار شنكار للمسرح الغربي، مسّاً بصفاء ذلك الجوهر الروحاني الذي حملته موسيقاهم على مرّ العصور؛ إذ إن للفن في الهند، من غناء وعزف ورقص، وعلى الأخص ما يُعرف هندياً بالموسيقى الكلاسيكية، وظيفة دينية داخل المجتمع، قبل أن يكون له وظائف أخرى جمالية أو تعبيرية. وعليه، نُظر إلى سفارة شنكار للموسيقى الهندية، على أنها ترويجٌ تجاريٌ لوسيط سمعي، كان بالنسبة إلى الهنود روحانياً، قبل أن يكون فنياً. وهي تهمة، أقرّ بها في غير مناسبة، رافي شنكار نفسه.