رعد مشتت مخرج وشاعر. درس الأدب الإنكليزي في بغداد، ثم غادر العراق إلى المنفى عشية حرب الخليج الأولى (1980 ـ 1988). له 3 أفلام روائية قصيرة: "شهرزاد"، و"مشهد للحب وآخر للموت"، و"تنويمة الجندي". عمل في بلدانٍ كثيرة، وأخرج أفلاماً وثائقية متفرّقة، بثّتها فضائيات عربية عدّة. عام 2010، أخرج وثائقياً روائياً بعنوان "انتحار دولة الرئيس"، وآخر بعنوان "موت معلن".
نشر 3 مجموعات شعرية: "الجنود"، و"السجين السياسي"، و"قصيدة تشبه اليوم". وله مخطوطة معدّة للنشر، "إيماج عبر الفيديو فون". كتب سيناريوهات سينمائية عدّة، منها "المجيب الآلي"، و"جدار بين ظلمتين"، المستوحى من كتابٍ بالعنوان نفسه للمعماري العراقي رفعت الجادرجي وزوجته بلقيس شرارة. أخرج فيلماً روائياً طويلاً، "صمت الراعي" عام 2013، بتمويل من وزارة الثقافة العراقية.
قدّم أخيراً، في عرضٍ صحافي، فيلمه الوثائقي الطويل الجديد، "مسيل الدموع"، عن الحراك الجماهيري الكبير قبل 3 أعوام.
في هذه المناسبة، التقته "العربي الجديد":
الفترة بين فيلمك الروائي "صمت الراعي" وجديدك "مسيل الدموع" طويلة جداً. ما سبب ذلك؟
إنّها ليست طويلة فحسب، بل دهر من الزمن. في الأعراف السينمائية العالمية، الفترة المقبولة بين فيلمين سنتان أو 3، وفي أصعب الحالات 5 سنوات، لا دهر أو دهور يحار بها مخرج الفيلم العراقي، الذي يعيش في مكان قيامة القصص السينمائية كما "ألف ليلة وليلة". غير أنّ هذا يحدث في القرن الـ21، حيث البحث عن مكان آخر غير الأرض، ليعيش الجنس البشري في كوننا مترامي الأطراف.
سبب بطالتي كمخرج، عطبُ الإدارة الثقافية ومؤسّساتها الفنية، وخلفها العقل الذي يدير الدولة، في إدراك القيمة الحقيقية لأهمية الفيلم والسينما في تشكيل وعي الإنسان العراقي، والرُّقي بذائقته الجمالية والحسّية. والأعمق من ذلك قدرتها، كحاضنة الفنون كلّها، على الارتقاء بمنظومتيه الفكرية والأخلاقية في تعاطيه مع أحداث زمنه والعصر، هو صانع أولى الحضارات، وخالق فنونها البارعة، التي تتنافس متاحف العالم على اقتنائها.
لماذا تريد أنْ تكون الدولة المنتجَ الأول للأفلام في العراق؟
بغياب وتغييب دور القطاع الخاص، صارت الدولة الجهة الوحيدة القادرة على تمويل الإنتاج السينمائي. العراق، منذ ستينيات القرن الماضي، لم ترَ دولتُه ومؤسّساتها في السينما غير كونها جهازاً دعائياً للبروباغاندا الخاصة بالنظام الاستبدادي. حين خرجنا من الدولة الشمولية إلى الدولة الريعية المنهوبة، رُكِنت أحلام السينمائيين، بل العراقيين جميعهم، على الرفوف، ليتكدّس عليها التراب، بينما حُوِّلت المؤسّسات الثقافية والفنية، ومؤسّسات الدولة كلّها، إلى حلّابات تعبث بمقدراتها، كيفما شاءت، زُمَر من سرّاق المال العام، التي وجدت نفسها بغتة تُدير، كما يقول الصحافي العربي محمد حسنين هيكل، بنكاً عظيماً كالعراق.
ماذا عن "مسيل الدموع"؟ ما الذي جعلك تختار التظاهرات الحاصلة في العراق موضوعاً له؟
شهد العراق، منذ عام 2011، حركة احتجاجية على سوء الأوضاع في البلد، امتدّت أعواماً. لكنْ، ما حصل في "أكتوبر 2019" كان صادماً ومُفاجئاً لا للدولة ومؤسّساتها الحكومية والأمنية فقط، بل للمجتمع الذي انبثقت من صميمه الاحتجاجات نفسها، إذْ تدفّق إلى قلب مدن الوسط والجنوب، وفي الطليعة بغداد، آلاف الشباب، في حراك لم يشهد العراق مثيلاً له منذ العهد الملكي، قبل 6 عقود.
اللافت للانتباه هذه المرة، بخلاف التظاهرات السابقة، كامنٌ في الشعارات التي رفعها ذلك السيل الجارف من الشباب، وفي مقدمتها: "نريد وطناً". كما لو أنّ البلد الذي يقطنون فيه لم يعد وطناً لهم، وها هي حناجرهم الصاخبة تُطالب به حقاً.
لم يعد الماء والكهرباء وفرص العمل والصحّة والتعليم، والأمن والبنى التحتية المُغيّبة، مطالب وشعارات، كما في احتجاجات ومظاهرات سابقة، بل الوطن، بمعانيه الرمزية والقانونية والوجودية والفيزيائية، كما لو أنّهم يغلقون في أذهانهم وخيالهم وإراداتهم بوّابات الهجرة، التي ارتسمت، لعقودٍ من الزمن، حلاً وحيداً ماثلاً أمامهم، ومتاحاً لأي شاب يحلم أو يتطلّع إلى بناء مستقبله. بدلاً من أنْ تستجيب الطبقة السياسية، المتحكّمة بمقادير البلد، لذلك الحراك، واجهته بأذرعها المُسلّحة بأشرس عملية قمع وتنكيل، فسقط مئات القتلى وآلاف الجرحى، واختُطف وعُذِّب العشرات، وزُجّ بالمئات في المعتقلات، وغُيِّب ناشطون ومثقفون، وصار الإفلاتُ من العدالة قانوناً.
ما فكرة الفيلم؟
إنّه سردية "تشرين". حدثٌ بالصورة والصوت منذ اللحظة التي تفجّر فيها، إلى خبو شعلته وانطفائها، لحظة تفشّي كورونا، وانزواء العراقيين في البيوت، كما فعلت البشرية كلّها. الحدث وحده يُقدّم السردية يوماً بيوم، وفصلاً بفصل، بلا سلطة وسطوة خارجية عنه. لا نصّ وتعليق وصوت في الفيلم، ولا مكان فيه للمحلّلين وأصحاب الدراية والمعرفة. المتحدثون فيه هم صنّاع الحدث عند صنعه وحدوثه، بلا موعد مسبق أو تحضير، وبتوتّر عالٍ، لأنّنا في أوان ارتطامٍ وصدام وخلق، لا يمكن لأحد التنبؤ باتجاه البوصلة ومجراها.
"مسيل الدموع" وثيقة دامغة عن جرح عراقي غائر، وانبعاث مهيب مجلّل بحلم الحرية.
أهناك مشاكل واجهتها في اشتغالك عليه؟
أول ما يتبادر إلى ذهني، للإجابة عن السؤال، سعة المادة المتراكمة عندي في الأشهر الـ6، التي تُشكِّل عمر "تشرين"، كمجريات لا كموقف ورؤية وأفق، لأنّ هذه ستعمّر طويلاً، كما أظنّ. لم يحدث أبداً في تاريخ العراق، قديماً وحديثاً، أنْ صُوّر حدثٌ بهذه الكيفية، وتلك الآنية، وذلك الكَمّ، مُطلقاً. في المدن الـ10 التي اشتعل فيها الاحتجاج، وفي الليل والنهار، كانت الكاميرات المُحترفة، وآلاف كاميرات الهواتف الخلوية، التي لا تخلو يدُ شاب منها، تُسجّل كلّ نأمة وتفصيلة من المواجهات والصدامات المميتة، والمسيرات والتجمّعات الحاشدة والمُدوّية، التي تجوب الساحات والشوارع، والمجريات اليومية لحياة المتظاهرين والمعتصمين، وآلاف الفعاليات الداعمة التي تحيطهم، وطبعاً أحزانهم الجماعية وانكساراتهم، وكذلك أفراحهم.
كم أنّها مُذهلة صُور الساحات، تراقب الشاشات الكبيرة التي نُصبت لبثّ مباريات كرة القدم، لحظة يفوز فيها الفريق الوطني، تستحيل فيها تلك الساحات أعراساً كبرى. هناك المآتم والأمهات الثكالى بأبنائهن، الذين سقطوا ولم يزالوا صبياناً. هناك أيضاً سباق الماراثون، وفرق الموسيقى والغناء، التي تتردّد أصوات أعضائها في فضاءات الساحات. هناك الرسّامون الذي يُحيلون جدران المباني والأنفاق الكالحة إلى كرنفالات من الألوان والبهجة.
إنّها حقاً بانوراما تجسّد، بكل واقعية، تلك اللحظات التي تختلط فيها الحقيقة بالحلم.
أشير أخيراً إلى أنّ طول أول تركيب مونتاجي -توصّلت إليه بعد أشهر من عُزلتي عن الدنيا، قابعاً في غرفة المونتاج، أمام جهاز "آيماك" والـ"هاردات" السينمائية كبيرة الاستيعاب- 10 ساعات، حصيلة نحو 80 ساعة تصوير. بعد 500 يومٍ، انتهى "مسيل الدموع"، الذي يزيد طوله عن الساعة الواحدة بقليل، لينتقل إلى العمليات الفنية والغرافيكية.
كان يحتاج إلى صبرٍ، وأنا من الصابرين.