توفي يوم أمس الأحد الصحافي البريطاني المخضرم روبرت فيسك عن 74 عاماً، بعد صراع قصير وسريع مع المرض، حسب ما أعلنت صحيفة "لندن إندبندنت" التي كان يعمل فيها.
اكتسب فيسك شهرته الكبيرة بعدما عمل لعقود مراسلا في الشرق الأوسط، فأمضى حياته المهنية في التغطية الصحافية لأخبار المنطقة، مقدماً تقارير وتحليلات مختلفة عمّا كانت تنشره عادة وسائل الإعلام الغربية.
كان فيسك، الذي أثارت تقاريره الجدل في كثير من الأحيان، نُقل أمس الأحد إلى مستشفى في دبلن، وتوفي بعد وقت قصير من نقله إلى هناك، بعد مرضه في منزله في العاصمة الأيرلندية.
صحيفة "لندن إندبندنت"، التي التحق بالعمل فيها منذ عام 1989، وصفته بأنه أكثر صحافيي عصره شهرة. قال كريستيان بروتون مدير الصحيفة: "كان روبرت فيسك لا يعرف الخوف، ثابت العزم وملتزماً تماماً بكشف الحقيقة والواقع بأي ثمن، (لقد كان) أعظم صحافي في جيله.. الشعلة التي أضاءها في إندبندنت لن تخبو".
ولد فيسك في كنت، في المملكة المتحدة، وبدأ حياته المهنية في "صنداي إكسبرس" في شارع فليت. ثم انتقل للعمل في صحيفة "ذا تايمز" حيث كان ينتقل بين أيرلندا الشمالية والبرتغال والشرق الأوسط. عام 1976 انتقل للإقامة في بيروت، بعد عام من اندلاع الحرب الأهلية في البلاد، واستمر في العمل والحياة في شقة سكنية تطل على ساحل البحر المتوسط.
كان مريباً بالنسبة لكثيرين السماح له في كثير من الأحيان بالوصول إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام في حين يمنع صحافيون آخرون
من مقامه في بيروت، تابع تغطية أغلب القضايا الكبرى في المنطقة تقريباً، بما في ذلك حرب لبنان، والحرب الإيرانية ــ العراقية، والصراع العربي ــ الإسرائيلي، وحرب الجزائر، وغزو صدام حسين للكويت، وغزو الولايات المتحدة واحتلالها للعراق، والربيع العربي وتبعات الثورة في سورية. ورغم شهرته الواسعة وخبرته الطويلة، بدت تغطيته للملف السوري، منحازة بشكل يجعلها متطابقة مع رواية نظام بشار الأسد، خصوصاً في السنوات الأولى التي تلت الثورة. وكانت أكثر تغطياته انحيازاً تلك التي شكك فيها في ما إذا كانت الحكومة السورية قد نفذت هجمات كيماوية ضد المدنيين في دوما بريف دمشق. ومن ضمن "سقطاته" السورية الأخرى تقرير نشره في سبتمبر/أيلول 2012 بعنوان "طريق سورية: من الجهاد إلى السجن".
في التقرير يسرد زيارته إلى أحد سجون الأمن السوري، متهماً كل المعتقلين بالانتماء إلى جماعات جهادية (يركّز على بعض السجناء الأجانب)، كما يتكلّم بلطف مريب عن رجال الأمن، ومسؤول السجن. هذا التعاطف الفج مع رواية النظام منذ السنة الثانية للثورة، في وقت كانت التظاهرات السلمية لا تزال في الشوارع، جعلت التعامل مع تغطياته الباقية في الملف السوري حذراً في كل السنوات اللاحقة.
حتى عام 2016، حرص فيسك على نشر شهادات لمعارضين سوريين "تائبين" عن مشاركتهم في مواجهة النظام السوري. وكان مريباً بالنسبة لكثيرين السماح له في كثير من الأحيان بالوصول إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام في حين يمنع صحافيون آخرون.
لكن قبل الثورة السورية وتحديداً في ثمانينيات القرن الماضي اعتبر فيسك نصيراً للشعوب العربية. عام 1982، كان من أوائل الصحافيين الذين توجهوا إلى مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطيين في بيروت، لتغطية المجزرة التي ارتكبتها مليشيات مسيحية بتغطية من الاحتلال الإسرائيلي. في وقت سابق من ذلك العام، كان أيضاً أول صحافي أجنبي يكتب عن حجم مجزرة حماة في عام 1982، عندما شن الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد هجوماً مدمراً على المدينة المتمردة بوسط سورية. انتهى الهجوم بدمار أحياء بأكملها ومقتل الآلاف في واحدة من أكثر المجازر شهرة في الشرق الأوسط الحديث.
فيسك كان مغرماً ببيروت، تلك المدينة التي وصفها بالوطن، وتشبث بها خلال أحلك أيام الحرب الأهلية بين عامي 1975-1990، عندما وقع صحافيون أجانب ضحية لخاطفين.في ذلك الوقت، استخدم فيسك مكاتب وكالة أسوشييتد برس لتقديم قصصه أثناء الحرب، حيث أطلق عليه زملاؤه لقب "ذا فيسك" أو "فيسكي".
في كتابه الذي يؤرخ للحرب الأهلية في لبنان "ويلات وطن" (1990)، يصف كيف كان ينفس عن غضبه وحنقه بضرب الحروف على آلة التليكس في المكتب الذي كان يعمل فيه. يقول مروان شكري، مدير مركز الصحافة الأجنبية في وزارة الإعلام في بيروت: "من المحزن أن أفقد صديقاً حقيقياً وصحافياً عظيماً.. لقد ضاع معبد الحقيقة".
اكتسب فيسك شهرة وشعبية خاصة في المنطقة لمعارضته لحرب العراق، متحديًا الرواية الرسمية للحكومة الأميركية عن أسلحة الدمار الشامل
اكتسب فيسك شهرة وشعبية خاصة في المنطقة لمعارضته حرب العراق، متحديًا الرواية الرسمية للحكومة الأميركية عن أسلحة الدمار الشامل لأنها وضعت الأساس لغزو عام 2003. كان أحد الصحافيين القلائل الذين أجروا مقابلات مع أسامة بن لادن عدة مرات.
بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2011، وما تلاها من غزو الولايات المتحدة للعراق، سافر إلى الحدود الباكستانية ــ الأفغانية، حيث تعرض لهجوم من قبل مجموعة من اللاجئين الأفغان.كتب لاحقًا عن الحادث من وجهة نظر اللاجئين، واصفًا ضربه من قبل اللاجئين بأنه "رمز للكراهية والغضب في هذه الحرب القذرة".
(العربي الجديد، أسوشييتد برس)