في النسخة الـ60 لـ"أسبوع النقد"، المُقامة في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لـ"مهرجان كانّ السينمائي الدولي"، عُرض فيلم "برونو ريدال" للفرنسي فنسان لو بور الذي أنتجته شركة "ستانك"، المؤسَّسة بجهود وإصرار 3 فرنسيين، هم لو بور نفسه وبيار ـ إيمانويل أوركان ولوي تارديفييه، ولبناني واحد، هو روي عريضة، مخرج أول روائي طويل له بعنوان "تحت السموات والأرض" (2020)، الفائز بجائزة لجنة تحكيم الدورة الـ42 (2 ـ 10 ديسمبر/ كانون الأول 2020) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي".
بمناسبة عرض "برونو ريدال"، وإطلاق فيلمه الوثائقي الأخير "علي، هاشم، خالد" (2021) في فرنسا، التقت "العربي الجديد" المخرج والمنتج عريضة الذي يعمل في باريس "بعيداً عن جذوره"، والذي لا يُمكنه الخروج من "أسْرِ" مدينة ساحرة تسكنه، وتدعوه دائماً إليها.
ماذا عن "برونو ريدال" الذي أنتجته "ستانك"، والمُشارك في مهرجان كانّ هذا العام؟
"برونو ريدال" شاب تتملّكه دوافع إجرامية. قصّة حقيقية عن جريمة وقعت في القرن الـ19، ارتكبها هذا الشاب اللامع ذهنياً، والمُضطرب نفسياً بسبب مستواه الاجتماعي. دخل الدير، وكاد يُصبح قسيساً، بعد دراسةٍ أنهاها سريعاً لذكائه الحادّ. ببلوغه 17 عاماً، ارتكب جريمة فظيعة: قطع رأس شاب، عمره 13 عاماً، استسلم بعدها مباشرة، مناشداً الآخرين إدراك دوافعه. تابعه محلّلون نفسيّون، طلبوا منه كتابة مُذكّراته، آملين فَهْم شخصيته. اكتشفوا كتابة واضحة، تدلّ على ذهن متوقّد. كتابة رائعة، تتناقض فيها كلماته الرقيقة والذكية مع عنف جريمته. في سرده، تمثّلت الهوّة بين نور يضيء أعماقه، وعتمة تسود أفعاله. يعود الفيلم، عبر مذكرات الشاب، إلى الوراء، ويُعبّر ـ بفضل إخراج كلاسيكي دقيق ـ عن أفكاره ودوافعه.
ما الذي حفّز "ستانك" على المساهمة في إنتاجه، لا سيما أنّه العمل الأول لمخرجه فنسان لو بور؟ السيناريو مثلاً؟
فنسان لو بور اكتشافٌ كبير لمخرج حسّاس. بسبب اهتمامه بالجرائم المتسلسلة، عثر ذات مرّة على قصّة هذا الشاب الذي تقاطع دافع الجريمة لديه مع الجنس، ففكّر بالقتل وهو في السادسة من عمره. ما أثّر في المخرج الاستسلام الفوري للقاتل، من دون أن يعني هذا شعوره بالندم. جذبته أيضاً شخصية هذا الفلّاح الفقير غير المتعلّم، لكنْ شديد الذكاء، مع تمتّعه بصفاء ذهن غريب. كذلك، وجد لو بور في تعقيدات القضية وأجواء القصّة والأمكنة (ريف، دير، إلخ.) غنى وعمقاً. لا يُدين الفيلم الكنيسة، بل على العكس. الشاب كتب أنّ أجمل سنوات عمره تتمثّل بوجوده هناك للدراسة. العمل على ظروفٍ كهذه مبعث إثارة للمخرج، ولنا أيضاً.
من أنتم؟ كيف تشكلت شركتكم "ستانك" وكيف تعمل؟
نحن 4 مخرجين، أنا اللبناني الوحيد بينهم. درسنا في "فيميس" (المدرسة الوطنية العليا لفنون وتقنيات مهن الصورة والصوت ـ المحرّر)، في باريس، وجذبتنا فكرة العمل معاً لتحقيق أفلامنا من الألف إلى الياء، للتحكّم بسلسلة صنعها. نسعى إلى إنجاز أفلامٍ بقياسٍ "إنساني"، ونميل إلى كلّ الأنواع السينمائية. تساعدنا خبراتنا المختلفة للكتابة معاً. نحن نكمّل بعضنا بعضاً. لا نرغب في دقّ الأبواب كلّما جاءتنا فكرة، بل حين يتطلّب الأمر، كهذا الفيلم المُشارك في كانّ، فنتشارك مع شركة أكبر. هكذا نستفيد من خبرتهم الإدارية، بينما نركّز نحن على النواحي الفنية للفيلم. كلّ التحدّي يكمن في الحفاظ على توازنٍ بين عفوية عملنا ومتطلّباته. في بداية تكوّننا، راودنا شكّ كبير بخصوص الاستمرار، حتّى باستحالته. لكنّنا تعاملنا مع الأمر كتجربةٍ، سنتعلّم منها الكثير، ثمّ جرت الأمور بسلاسة مدهشة، وأحببنا العمل كفريقٍ، وفكرة أنْ لا أحد فوق رؤوسنا لينذرنا بانتهاء المال. أيضاً، لمسنا أنْ عملنا على هذا النحو يُقرّبنا من التقنيين في الفيلم، فكنا معاً نهدم الحواجز.
نسعى إلى إنجاز أفلامٍ بقياسٍ "إنساني"، ونميل إلى كلّ الأنواع السينمائية. تساعدنا خبراتنا المختلفة للكتابة معاً. نحن نكمّل بعضنا بعضاً
لكنّ الأهم يكمن في التحكّم بالفيلم، من بدايته إلى نهايته. بعد تركيزنا على أفلامنا، بدأنا نتوسّع جغرافياً ونوعياً. أنتجنا إلى الآن 30 فيلماً من كلّ الأنواع والأحجام. أفلام مجبولة بقناعة عميقة وحبّ. نسعى إلى أنْ يكون العامل معنا مُشاركاً حقيقياً، وأنْ يشعر أنّ الشركة موجودة لمساعدته لا فقط للاستفادة منه. يسود تفاهم أفقي، يجعل الجميع يشعرون بالمسؤولية، فلا رئاسة في شركتنا. نحن عائلة كبيرة، هدفها تحويل المشاريع الهشّة إلى مشاريع مُمكنة التحقّق.
وصفت نفسك بأنّك منتج لبناني بعيد عن جذوره. لكن فيلميك، الروائي "تحت السموات والأرض" (2020)، والوثائقي "علي، هاشم، خالد" (2021)، صُنعا في لبنان.
مع أنّي أقيم معظم الوقت في فرنسا، لا يُمكنني تحقيق فيلمٍ بعيدٍ عن جذوري. إلى اليوم، لست قادراً، كمخرج، على كتابة تدور خارج تلك المنطقة. ما أكتبه يأتي من العمق، من أصولي. صحيحٌ أنّي أوضح أفكاري بالفرنسية، لكن قلبي لبناني. العربية تخرج تلقائياً حين أودّ التعبير عن الحبّ والدلال. لا أعرف كيف أجعل أبطالي ينطقون بالفرنسية، مع أن محيطي فرنسي.
أطرح تساؤلات حول مشروعية كتابتي أفلاماً عن لبنان، أنا الذي لا أعيش هناك، ولا أتابع تماماً ما يجري فيه، ولا أعاني ما يعانيه أصحابي والناس
ربما كان عملي كمخرج آخر رابط لي يجمعني ببلدي. أخشى قطع هذا الرابط لو حقّقت فيلماً في أرض أخرى وعنها. لغتي السينما بوجوهٍ لبنانية، وبلغتها، مع أنّي لا أسكن هناك، (ثم مُبتسماً): إنّها المرة الأولى التي أصيغ فيها إحساسي بهذا الأمر. في الآن نفسه، أطرح تساؤلات حول مشروعية كتابتي أفلاماً عن لبنان، أنا الذي لا أعيش هناك، ولا أتابع تماماً ما يجري فيه، ولا أعاني ما يعانيه أصحابي والناس. أتساءل عن نظرتهم إليّ، وعن مدى أهمية ما أفعله. أتساءل كثيراً عن هويتي، وعن هوية عملي. لذلك، قلتُ إنّي منتج بعيد عن جذوره. أنا منتج من لبنان، ولي مشاريع مع آخرين عنه وفيه. لعلّي أكون جسراً سينمائياً مع لبنان.
في "تحت السموات والأرض"، رسمت صورة لمدينة خانقة، حيث المخاطر وأحاسيس الوحدة والعزلة. هناك، في بيروت، حيث عبثية الحياة. في الفيلم لوحة لمدينة تقتل الأحلام، لكننا مُتعلّقون بها. ما علاقتك بهذه المدينة بالذات، كفنان وإنسان؟
تربطني ببيروت علاقة شديدة الخصوصية. إنّها مدينة ساحرة ومتعبة، تمصّ الدماء، وتشدّ إلى القاع، لكنّها في الوقت نفسه تهبُ المرء طاقةً هائلة وبهجة. حين تذهب صديقتي إلى هناك، أسألها أنْ تقبلها عنّي، كأنّ بيروت شخصية لها روح. بيروت المجروحة، فيها ذكريات وأصوات ووجوه، روعة الطفولة ونشوة المراهقة. عشت فيها فترة ذهبية بين بداية أعوام الألفين، ومنتصفها. صحيحٌ أنّها كانت فترة ضغط وتوتّر وعدم حرية، لكنْ كان يسودها سلامٌ، وبعض نظام، والأهم أملٌ وشيء من تطوّر فني وثقافي. كنتُ حزيناً حقاً لتركها للدراسة في فرنسا. كأنّ شيئاً سيفوتني حين أغادرها. باريس باردة، ثقيلة، لا حياة فيها. الناس لا يتبادلون أحاديث في ما بينهم. مدينة لا تنتمي إلى أحد، ولا تربطني بها علاقة شخصية. في بيروت، هناك شيءٌ قوي يجعل أثرها لا يُمحى. أحبّها بعمق، وفي الوقت نفسه ألومها. لطالما رغبت في تجسيد مشاعري تلك في أفلامي.
تجسّدت هذه الحياة الحيوية في "علي، هاشم، خالد" الذي حقّقته بالاشتراك مع رشا بارود. صوّرتماه هناك بعد أيام من انفجار مرفأ بيروت، حيث ذهبتما للبحث عن 3 من عمّال المرفأ ظهروا في أحد أفلامكما قبل 10 أعوام.
نعم. هذا فيلم تتجسّد فيه بساطة الحياة وحبّها. بعد عرض خاص في باريس، علّق شبابٌ في النقاش بالقول: هذه هي الحياة. أمرٌ لا يٌصدّق، مع كلّ ما حصل. هذا ما سعيتُ إلى تصويره. كلُّ ما يسمح بالبقاء رغم كلّ شيء، من حياةٍ ينهار فيها كلّ شيء، لكنّها تبقى متجسّدة مع الناس البسطاء والكلمات البسيطة. "وتستمرّ الحياة" (1992) لعباس كيارستمي، أوحى لي بالفكرة، مع أنّي عادة لا أميل إلى مُسايرة الآنيّ والعمل عليه، وأفضّل ترك الفكرة لتختمر. هنا، وجدتُ نفسي مدفوعاً بقلقي على هؤلاء الأشخاص، وعلى الناس، وكيف يعيشون بعد الانفجار. هناك، اكتشفت أنّ تكرار الأقوال عن قدرة اللبنانيين على تجاوز المخاطر، والنهوض من الأنقاض، لم تعد تستهويهم. تغيّروا. هم يريدون الخلاص الآن.
في فيلميك، تُظهر شخصياتٍ غريبة الأطوار: عجوز لبق مُتسوّل، وآخر يغسل الطريق بعد الانفجار، وعازف ناي بين الأنقاض، وغطّاس يبحث عن هدفٍ مستحيل.
في "ستانك"، نهتمّ بالشخصيات التي تخرج تماماً من العادية. في "تحت السموات والأرض"، هناك بُعدٌ بطوليّ للشخصية ينطوي على تحدٍّ. في الوثائقي، أردتُ إظهار كيفية عيش الإنسان البسيط حين يُترك لمصيره، في العبث، حيث لا نعرف كيف حدث ما حدث، ولماذا، وكيف يجب التصرّف. في التفاصيل الغريبة، في ظروفٍ كتلك، حيث في كلّ حركة ونظرة، وفي كلّ شيءٍ مهما بدا صغيراً، تأخذ الإنسانية مداها، وتُعبّر من دون خطاب سينمائي. في الفيلم، شخصيات لا يُمكن كتابتها، تُشبه شخصيات صموئيل بيكيت. الرائع يكمن في لقاء تلك الشخصيات، العادية في الحياة. لكنّي، كسينمائيّ، أحاول أنْ أكبّر هذا العاديّ. في صميم عملي واهتمامي، تعيش الشخصيات خارج ما يفرضه المجتمع عليها، وتطرح تساؤلات حول كيفية الوصول إلى السلام الداخلي، والسيطرة على حياتنا في هذه الفوضى الكونية. في لبنان، أيّ أمر صغير يأخذ أبعاداً لا يمكن قياسها، والإنسان متروك لنفسه. أشعر بلبنان كثيراً. لا أعيش فيه، ولا أدّعي. لذلك، أقدّم فيلماً كاملاً عنه.