سامي التليلي (2/ 2): الحوارات مهمّة في الوثائقي والحكاية أصل السينما

12 يونيو 2024
سامي التليلي ووالدته في "عالبار": كرة القدم تجمع المتنافرين (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- المخرج يعبر عن شغفه بالذاكرة والتاريخ في أعماله، موضحًا الفرق بين الذاكرة الشخصية والتاريخ الأكاديمي، ويؤكد على أهمية عرض أفلامه في تونس والعالم العربي لجذب جمهور أوسع.
- يتناول فيلم "عالبار" علاقة المخرج الشخصية بكرة القدم وتأثيرها في السياسة والنقابية بتونس، خاصة خلال الصراع بين الاتحاد العام التونسي للشغل وسلطة بورقيبة مع مشاركة المنتخب في كأس العالم 1978.
- يناقش التحديات في صناعة الأفلام الوثائقية وأهمية الحكاية والبنية الدرامية، معبرًا عن رفضه لتجنب الحوارات ومؤكدًا على استمراره في التنقل بين الأفلام الروائية والوثائقية والعمل على سيناريو روائي جديد.

 

(*) ألذلك أنت مهمومٌ بالذاكرة والتاريخ في أفلامك؟

أجل. لديّ هوس بالذاكرة والتاريخ، والتنصيص على الفرق بينهما. في الذاكرة جانب شخصي ذاتي، وإنْ كانت جماعية. للتاريخ، كاختصاص علمي أكاديمي، خصوصيات وقواعد في التحليل. شغفي هذا بالتاريخ والذاكرة في الأفلام الوثائقية ليس بالضرورة من المواضيع التي تحبّها المهرجانات، أو تهتمّ بها. مواضيع كهذه تحب البلدان الغربية أنْ تراها، تلك التي لها نظرة معيّنة عنّا، وتحبّ أنْ ترى ما تتوقّعه. لكنْ، رغم معرفتي أنّ المهمة صعبة، توجّهت إليها.

أهمّ ما في "يلعن بو الفسفاط" و"عالبار"، أنّهما معروضان تجارياً في تونس. هذه سابقة لم تحدث كثيراً. شوهدا في بلدان عربية أيضاً، وعُرضا تلفزيونياً. هذا مهمّ لي. كسرا الحاجز بين الأفلام الوثائقية والروائية. الأفلام التي صنعتها أقبل عليها الجمهور. طبعاً، الأمور نسبية، فجمهور السينما الوثائقية ليس كما هو مع أفلام الـBlockbuster في أميركا.

 

(*) ماذا عن فكرة "عالبار"؟

الفكرة موجودة منذ قرّرت أنْ أشتغل أفلاماً وثائقية. إنّها الجزء الثاني من أفلامٍ أود صنعها عن علاقة التونسي بالتاريخ التونسي، وعلاقتي أنا بهذا الكلّ. فكرة "عالبار" تسبق فكرة "يلعن بو الفسفاط". موجودة منذ قراري الاشتغال في السينما. مهمّ لي أنْ أنجز فيلماً يروي علاقتي بكرة القدم ضمن علاقة تونس بها، مع علاقة أمي بها أيضاً. ثم علاقتي بهذا الكلّ. كجميع الأطفال، كرة القدم قضية كبيرة. طفولتنا تُختَزَل في رقم مفضّل في تلك الرياضة، وبفرقنا المفضّلة، وبانهزاماتها وانكساراتها. اكتشافي ما وراء أحداث 1978 سبّب هزّة نفسية لحالتي كمراهق. عندما كبرت ونضجت، أدركت ذلك. الفكرة هذه ظلّت قابعة فيّ. مع ذلك، وإلى الآن، لا أزال مغرماً بها. لديّ رؤية نقدية لاستعمالات كرة القدم، ولاستعمالات الرياضة عامةً، لأسباب سياسة وغير سياسية. لا علاقة للأمر بمشاركة تونس في كأس العالم 2018 أو 1990 أو 2002 أو 2006. هناك علاقة برؤيتي للمجتمع التونسي.

 

(*) يتداخل الرياضي بالنقابي والسياسي. في السرد، تكشف عن تفجّر الصراع الحاد بين "الاتحاد العام التونسي للشغل" وسلطة الحبيب بورقيبة، تزامناً مع وصول المنتخب التونسي لكرة القدم إلى مباريات كأس العالم في المكسيك، عام 1978. كيف ومتى تبلورت تلك الخيوط في ذهنك؟

التداخل انطلق من بداية تفكيري بعبثية التاريخ. تساءلت: كيف تنجح حركة اجتماعية أو حركة تغيير سياسي؟ كيف تنجح ثورة أو أي محاولة تغيير؟ هناك دائماً الجانب العام المجهول. نحكي عن الصيرورة والتراكم التاريخيين. فقدان هذا العنصر الفعّال أو المجهول يُجهِض التغيير. بالنسبة إليّ، ضيّعت تونس عام 1978 موعداً مع انفتاح ديمقراطي، ربما يفشل أو ينجح، هذا موضوع آخر. لكنْ، في تلك الفترة، هناك زخم فكري ونضج مجتمعي. المجتمع كان ناضجاً، سياسياً وفكرياً، ربما أكثر من عام 2011. لكنّ الرغبة في التغيير فشلت، وتمكّن النظام من تحويل الأمور لصالحه.

 

(*) برأيك، ما العنصر المجهول الذي كان ناقصاً؟

مؤكّدٌ أنّ كرة القدم لعبت دوراً. متطلّبات ومقوّمات التغيير ونجاحه لم تكن متوفرة؟ ربما. لكنْ، ما يقلقني شخصياً أنّ تونس خسرت 30 عاماً. ربما لو حدث الانفتاح عام 1978، لوفّر على تونس العشرية الصعبة جداً في ثمانينيات القرن الـ20. ربما كان ذلك سيُجنّبنا الحكم اللاحق على بن علي.

من هنا تأتي رمزية العنوان، "عالبار" أي "على العارضة"، ومعناها أنّها فرصة كادت تكون هدفاً، لكنّها لم تتحقّق لولا تفاصيل جعلت الكرة تصطدم بالعارضة، وتُثير هياجاً وغضباً كبيرين. إنّه تعبير مجازي عن كلّ رغبة في تغيير لم يتحقّق، وفشله عائدٌ إلى أسباب ربما تكون تفاصيل صغيرة، ففي الحياة اليومية التونسية، إنْ لم يتحقّق شيءٌ، يُقال "ضربت على العارضة"، أي أنّها كانت قريبة من التحقّق، ولم تتحقّق.

 

(*) في الفيلم شهادات كثيرة لنقابيّين وروائيين وباحثين وسياسيين وصحافيين ورياضيين، وأعوان النظام السياسي. ألم تشعر بالقلق في أي لحظة من أنّ كثرة الحوارات ربما تجعله تلفزيونياً أكثر منه سينمائيّاً؟

بعد خمسة أعوام على إنجاز "عالبار"، أقول إنّ العملية كانت صعبة. في الوقت نفسه، أحبّ سرد حكاية ورؤية سينمائيّتين. مهمّ تحقيق توازن بين الرؤية السينمائية والمعلومات. شعرت بقلق في المونتاج، لخشيتي أنْ يكون الفيلم مملاً، لكنّه لم يكن مملاً. هناك شهادات لشخصيات عدّة. حاولت إيجاد توازن بين الرؤية السينمائية والتماسك الدرامي والمعلومات المهمة، وعلاقة هذا بالحكاية التي أحبّ سردها.

 

 

(*) كيف خطّطت للحفاظ على روح السينما فيه؟ هل فعلت ذلك قصداً في التصوير، أم بعد انتهائه، أم في المونتاج؟

الحفاظ على روح السينما في الوثائقيّ كامنٌ في التماسك الدرامي. البنية الدرامية للفيلم تجعلكِ تحافظين على روح السينما في الفيلم، أو قتلها. ليست قلّة الحوارات أو كثرتها. هناك «تريند» الآن أنّ الوثائقي يجب ألا تكون فيه حوارات. أنا ضدّ هذه الفكرة. بالنسبة إلي، الحوارات مهمّة في الوثائقي. الحكاية أصل السينما عندي. أحترم كلّ الآراء والنظريات، لكنّ السينما حكاية، بغض النظر عن كيفية سردها، سواء بدأت من الآخر أو من الأول، سواء كان السرد تقليدياً كلاسيكياً أو غير كلاسيكي. لكنّ المهم لي الحكاية. إذاً، روح السينما في الوثائقي تستند عندي إلى البنية الدرامية، لا إلى أشياء أخرى تظلّ أكسسوارات أكثر من روح السينما.

 

(*) هل الإخلاص إلى اللغة السينمائية يأتي أولاً، أم إذا كان هدف المخرج أن تؤدّي السينما دوراً في التوعية يستعين بالمباشر، ويتغاضى عن اللغة السينمائية؟

استثناء اللغة السينمائية يكون في ظرف معين ولأسباب معينة. لكنْ، يجب ألا يكون قاعدة، بل استثناءً. القاعدة إخلاص لتلك اللغة، فتكون أولاً. لكنْ، هناك حالات استثنائية نستعين فيها بالمباشر.

أنا ضدّ فكرة القواعد والمحرّمات في الفن، إذْ يجب تكسيرها. لكنْ، لهذا التكسير ما يبرّره، لا أنْ يكون من أجل التكسير. هناك مخرجون يكسرون القواعد، ويُثيرون انبهاراً، بينما لا أعتبر هذا إنجازاً. يبقى السؤال: لماذا كسرت القاعدة؟ أهذا مبرَّر أم لا؟

 

(*) بين حين وآخر، تُخرج أفلاماً قصيرة، كـ"تسلل واضح"، الذي تعود فيه إلى فكرة كرة القدم وأثرها في تونس، والهوس الشديد بها. كما تكشف قهر المواطن من السلطة بشكل هادئ وتلقائي، بل مستفزّ أيضاً، بلقطات بسيطة لكنّها قوية التأثير، خاصة في رسم العلاقة العدائية بين رجال دورية الشرطة الليلية أنفسهم، وبينهم وبين المواطنين في المقهى. تتفجر العدائية مع المواطن هشام الذي أدّى مجد مستورة دوره.

علاقة المواطن بالشرطة في تونس عدائية صدامية، لم تنفع معها أي مصالحة، لا مع دورات تدريبية نُظِّمت بعد الثورة، ولا مع ما قيل عنه إنّه انتقال ديمقراطي، ولا مع خطابات رنانة، ولا مع ورشات عمل موّلها ونظّمها "الاتحاد الأوروبي" (يضحك بسخرية ـ المحرّر)، ولا مع هيئة الأمم لإعادة هيكلة البوليس. مباريات كرة القدم أقواسٌ في تاريخ الشعوب، فيها تظهر خطابات اللُحمة الوطنية والوئام الوطني والروح الوطنية. كرة القدم تجمع أناساً لا يجتمعون عادة في الحياة اليومية، فلا أحد قادر على جمعهم معاً. وقت المباراة، خاصة مباراة المنتخب الوطني، تجتمع الأضداد. المتنافرون في الحياة العادية يُصبحون أصدقاء في مباراة المنتخب الوطني، ويُشجّعون معاً. فور انتهاء المباراة، يرجع كلّ شخص إلى مكانه الطبيعي. العلاقة بين المواطن والبوليس في كرة القدم تُصبح صداقة، ليس بدقّة، لكنّها تُصبح عادية.

حاولت في الفيلم توضيح أنّ أقواس كرة القدم خدعة، وأنّ ما يحدث ليس لُحمة وطنية حقيقية صادقة. كرة القدم ليست روحاً وطنية ولا روحاً جماعية حقيقية. لذا، جعلت هشام لا يحبّها، لكسر الأسطورة مباشرة. أقصد كسرها سردياً.

 

(*) هذا الفيلم يختلف عن "يلعن بو الفسفاط" و"عالبار" أسلوبياً، ليس فقط لأنّه نوع سينمائي مختلف، بل لأنك لم تستخدم أي موسيقى تصويرية أو أي مصدر طبيعي للموسيقى، باستثناء أصوات الناس في المقهى ومحطة البنزين، وصوت المباراة في الراديو والتلفاز، وصوت القرآن. عدم استخدام الموسيقى قرارٌ لك منذ البداية؟

لدي اهتمام كبير بالصوت. بالنسبة إليّ، الصوت في الفيلم سردٌ، لا حوار في مشاهد، بل العالم الصوتي، أصوات الشارع والرياح والطبيعة والناس. كان يُفترض بعنوانه أنْ يكون "اللقطة الصوتية". فكما هناك لقطة بصرية، هناك أيضاً لقطة صوتية. لذا، لا توجد موسيقى. في "نهار الكراتين"، لا موسيقى أيضاً. دور الموسيقى المساهمة في السرد، وطالما أنّ السرد موجود من خلال العالم الصوتي، لا حاجة إلى الموسيقى. أفضّل أكثر العالم الصوتي، ففي مكان ما في لقطة ما، هذا العالم يحكي حكايته من خلال الأصوات.

 

(*) بعد تجارب روائية قصيرة وتجربتين طويلتين شديدتي التميّز في الوثائقي، كيف تخطّط لمستقبلك السينمائي: وثائقي أم روائي؟

حالياً، أشتغل على سيناريو روائي طويل قيد التطوير. كوميديا ساخرة. هذا ما أفضّله في الروائي. الوثائقي تركته الآن لوقتٍ آخر. لاحقاً أعود إليه. أجد نفسي بين الروائي والوثائقي. هناك مواضيع أفضّل حكيها وثائقياً، وأخرى روائياً.

المساهمون