تبقى الموسيقيّة والمغنية الجزائرية سعاد ماسي (1972) من أبرز الوجوه الفنيّة الجديدة، بألبوماتها الغنائية المُجدّدة للساحة العربيّة، تأليفاً وعزفاً وغناء. فهي، وإنْ كانت قد سافرت إلى فرنسا من أجل إقامة حفلة صغيرة في باريس، إلا أنّها كانت كافية حتى تُمارس سحرها الآسر على وجدان ماسي وتُقرّر الاستقرار واستكمال مشروعها الغنائي والتحليق به بعيداً في آفق العالمية، بعيداً عن مآزق "العشرية السوداء" في بلدها وأحلامه المشرعة في وجه الجنون والاستبداد.
لكن هذه الجزائر "المرعبة"، تكاد سعاد ماسي لا تبرأ منها. إنّها مثل الرائحة التي تنطبع في مخيّلة المرء وتُؤجّج معها كتل العواطف والأحاسيس بقصصها وأناسها وأحلامها ومرارتها وخيباتها وأفراحها. فهذا الريبرتوار السِّيَري هو المعين الذي لا ينضب عند سعاد ماسي، إذ يُخيّل للمرء أنّ أغانيها تكاد تنبثق من جرح شخصيّ، لكنّ سرعان ما تختفي ملامح وجه مكلوم، وتتماهى الكلمات مع أجساد الناس وقصصهم وحياتهم الشخصية. فهي أدائياً تتشرّب حزن الآخر وتتملّكه، وهذا الأمر جعل من أغانيها تنبع من قناعات ذاتية، لا تحفل بالتغيّرات السياسية، التي شهدها البلد منذ التسعينيات، بقدر ما تتوخّى التعبير عن جوارحها وعن جسد الآخر المكلوم اجتماعياً.
هذه الازدواجية الذاتية في أعمال سعاد ماسي يستشعرها المرء في عدّة أغان مثل "بلادي"، و"متبكيش"، و"دنيا"، و"أوهام" وغيرها من الأغاني المكوّنة لألبومها الأوّل "راوي" (2001) الذي أنتجته الشركة العالمية "يونيفرسال"، وبعدها تتوالى ألبوماتها دفعة واحدة، قبل أنْ تُقرّ الاستقالة من الشركة، بسبب رفض ألبومها الغنائي المذهل "المتكلّمون"(2015) الذي خصّصته لعيون قصائد شعراء العرب القدامى والمحدثين.
فالرفض لم يكُن فنياً وجمالياً، وإنّما أيديولوجياً، بسبب عدم قدرة الشركة على إنتاج ألبوم غنائيّ يحتفي بشعر عربي ماضويّ وحضاري، أمام ما تشهده الساحة العالمية من تغيّرات. فالمُستمع إلى هذا الألبوم سيكتشف لا محالة حجم التجديد الفنيّ الذي ميّز أغانيه، ثمّ الطريقة الفنيّة الكوليغرافية التي وسمت أغانيه كتابة، بحيث إنّ سعاد ماسي، ستعمل ولأوّل مرة على استخدام أنماط موسيقيّة متنوّعة مثل الريغي والفولك والجاز. وعلى الرغم من أنّ الأغاني خاصّة بشعراء عرب، فإنّ طريقة الأداء ورقّة العزف وحدّة الغناء تجعل الصوت يخرج منساباً وهادئاً يرجّ مسام الجسد، وكأنّ كلماتها عبارة عن قصص وحكايات ذاتية، تعمل على صياغتها وتوليفها داخل أغان وقوالب موسيقيّة.
تنتمي أغاني الجزائرية سعاد ماسي إلى ما يصطلح عليه بـ "الفنّ المعاصر" الذي يحتضن كل الأنماط التعبيريّة الموسيقيّة والبصريّة التي تنسج وشائج علاقة أكثر حداثة وارتباطاً بتحوّلات الفرد في علاقته باليومي. إنّ أغانيها تتجاوز البُعد الإنشادي الترفيهيّ الذي يُخيّم على الغناء العربي الآن، ويجعله مجرّد طرب استهلاكيّ عام يُطرب الناس ولا يسعى إلى القبض عن حقيقة اللحظة وعنفها.
الحقيقة أنّ هذا التواشج الموسيقيّ المعاصر في أغاني سعاد ماسي، لا يعكس سوى أمرين: الأوّل، يتعلّق بتلاشي مفهوم "الهوية" العمياء وانفتاح الأمزجة والفضاءات والمخيّلة والأجساد على هويات فنيّة جديدة، لا تُقيم حدوداً مع لغة الآخر وسياجات مع الهويات المحلية والجهوية، لأنّ الهوية الموسيقيّة الجزائرية زئبقيّة الطابع وتعرف تحوّلات جماليّة دائمة، بسبب غناها وتعدّدها داخل مدن جزائرية عدّة.
لكنّ المُثير للانتباه لدى سعاد ماسي، هو البُعد الأندلسي الحاضر في كل أغانيها، بحيث إنّ موسيقى الفلامينكو لها تأثير كبيرٌ عليها، وتحضر دوماً بطرق مختلفة بين القدامة والحداثة، غير أنّ هذا الاختلاف لدى المغنية لا تُحرّكه أيّ رغبة شعاراتية تجعلها تدّعي الكونية، ولكنها تنساب بسلاسة من جسدها بسبب حبّها الطفولي للفلامينكو الذي قادها في مراحل الصبا إلى الانخراط داخل فرقة جزائرية تعزف هذا اللون الموسيقيّ الإسباني.
وثانياً، لأنّ موسيقاها، لا تقبل نوعاً من الجمود الذي يجعلها مجرّد فولكلور، بحكم تحوّلات فنيّة وجماليّة تعرفها، ومنها هذا التداخل الأجناسي، بين الأنماط الموسيقيّة العالمية المعاصرة، والذي يجعل الأغنية تُجدّد نفسها من الداخل وفي تلاقيها مع عزف الآلة الأجنبية، من دون أنْ تنسى هويتها الأصل، كما تفعل ماسي. إذْ إنّ لهجة "الراي" الجزائري في أغانيها حاضرة ولغة التعبير عربية بامتياز، لكنّ القوالب الموسيقيّة ذات طابع غربي، لأنّ التشظّي الموسيقيّ الموجود في أعمالها، بين الجاز والريغي والفلامينكو، لا يعكس سوى طبيعة الحياة المغاربيّة في فوضاها الخلّاقة، فهي بقدر ما ترفض الفوضى وتمدح الحلّ ومختلف أشكال النظام، سرعان ما تتأكّد رغبة الانعتاق، بأنّ سرّ الحياة وجماليّاتها، يكمنان في فوضاها واختلافاتها وتناقضاتها، إذْ إنّ غنى الموسيقى الجزائرية يُشكّل قيمة مضافة إلى ماسي، فهو لا يجعل مشروعها الغنائيّ ترفيهاً، بل يُعطيه خلفية ثقافيّة وتاريخيّة وحضارية أشبه بأثر موسيقيّ يحفر مجراه عميقاً في ذاكرة الشعوب المغاربيّة بكل أقطابها وروافدها وتنوّعها.
ولا ننسى أنّ السرّ الكبير في أغاني سعاد ماسي، يكمن في قدرتها المذهلة على التأليف والعزف والغناء بنفس واحد، وقلّة من المطربين العرب من يمتلكون إمكانات إبداعات فنيّة، تُحمّل الجسّد طاقة للدخول في عالم، تتماهى فيه عذوبة الصوت برقّة الآلة وجزالة الكلمة برهافة الجسد.