لم يكن حفلاً عابراً ذلك الذي قدمته الفنانة الفلسطينية سناء موسى في الأمسية ما قبل الأخيرة من فعاليات مهرجان وين ع رام الله، بنسخته الرابعة عشرة، مساء الاثنين، وسط حضور جماهيري كبير.
وكان من المفترض أن يقتصر حفل موسى على أغنيّات جديدة من أغاني البحر والصيادين الفلسطينيين، والتي يضمّها ألبومها الجديد "من ذاكرة الساحل الفلسطيني"، لكنّ إلحاح الجمهور الذي احتشد بالآلاف في ساحة راشد الحدادين بمدينة رام الله، دفعها إلى إدخال تعديلات على البرنامج، وتقديم عددٍ من أغنياتها السابقة.
وفي حديث مع "العربي الجديد"، قالت سناء موسى إنّ العرض "موسيقي تراثي منوّع يركز على غناء البحر والصيادين في فلسطين، وفق قوالب غنائية نادر شيوعها في المشهد الفني الثقافي أو في الحياة اليومية في فلسطين، رغم وجود ساحل كبير يقطع فلسطين من شمالها إلى جنوبها".
وأعربت عن سعادتها بتفاعل الجمهور، لا سيّما مع أغنياتها الجديدة، مضيفةً: "أهتم بالمهرجان المحلي لأنني أغني فلسطين ولفلسطين وأهلها"، مشيرةً إلى أنّها ستقيم حفلاً في وقتٍ لاحق من أغسطس/ آب الحالي على خشبة مسرح الحرية في مخيم جنين، بعنوان "لجنين نغنّي".
وأشارت موسى إلى أنّ "التساؤل حول الذاكرة الموسيقية للساحل الفلسطيني بدأ عام 2005، وتحديداً مع أغنيات الصيد والصيّادين".
وتابعت: "لم أكن قد صادفت بعد أي أغنية تندرج في إطار الموروث البحري الفلسطيني، فكان مهمّاً لي أن أبدأ في عملية بحث، إلا أن الرحلة كانت مخيّبة للآمال في البداية، وشاقة بطبيعة الحال، ولكن اتضح لي في ما بعد أن أغنيات الصيد والصيّادين توقفت في ثلاثينيّات القرن الماضي بسبب تصنيع القوارب ذات المحرّكات.
وشرحت: "أغاني البحر والصيّادين مرتبطة بالعمل وتعمل كوقود يساعدهم على التجذيف، ومع دخول الوقود في تشغيل القوارب لم تعد لهذه الأغنيات ضرورة في هذا الجانب، أو حتى للتسلية بحكم أن القوارب الجديدة باتت تقصّر المسافة الزمنية للرحلة، كما أن أصوات المحرّكات المرتفعة تجعل الصيادين لا يسمعون بعضهم بعضاً، ومن لا يسمع نفسه لا يغني، كل ذلك ساهم في انقراض هذا النوع من الغناء، وكان من الصعب عليّ، بل من الصعب جداً، العثور على شهادات أو أغنيات من صيّادين أو أبناء صيّادين ورثوها عن آبائهم".
وكان لافتاً ذلك الكشف عن أغنيات لم نسمعها من قبل، أو عن أغنيات شهيرة قدّمتها بنسختها المغايرة، كما أغنية "عندك بحرية يا ريّس"، التي اشتهرت بصوت المطرب اللبناني الراحل وديع الصافي.
وتقول كلمات الأغنية الأصلية في مطلعها الذي يلامس الموّال: "طلعت الشمس يا ريّس على المينا، وإحنا الغرابة ودّينا لأهالينا"، قبل أن تبدأ الأغنية الحماسية لحناً وكلمات، وأبدعت سناء موسى في تقديمها، بـ"عندك بحرية يا ريّس وزنود قويّة يا ريّس. عندك بحرية يا ريّس صافيين النيّة يا ريّس. والبحر كبير يا ريّس قطع الجنازير يا ريّس. والبحر جبال يا ريّس وهمّ ع البال، وأنا وسط الميّة يا ريّس".
بدأت المغنية حفلها بما يشبه الابتهالات الملحّنة، وهو "نمط كان دارجاً لدى الصيّادين لكي يشجعوا أنفسهم على دفع مراكبهم"، بحسب موسى. ثمّ قدّمت فقرة بعنوان "دعاء" يندرج في إطار ما كان يُعرف بـ"أربعا أيوب"، وهو طقس يعكس علاقة الإنسان بالبحر، فسكان الساحل كانوا يتطهرون من ذنوبهم بمياه البحر، كما كان ذوو الأطفال ممن يتأخرون في النمو والنطق يأتون بأطفالهم إلى البحر في يوم الأربعاء الأخير الذي يسبق "أحد الفصح" ويدعون لهم بالشفاء. وكان هذا الطقس شعبياً أكثر ممّا هو ديني، ويمارسه جميع أهل الساحل.
تنوعت أمسية "أغاني من ذاكرة الساحل الفلسطيني" على مدار ساعة، بين أغانٍ من يافا وحيفا ورأس الناقورة وغزة وعسقلان وصولاً إلى صيدا، مثل "منديلي"، و"يا نازلين البحر"، و"إش جيّبك يا غزال"، و"يا زارعين السفرجل".
كما أعادت موسى تأدية عددٍ من أغانيها القديمة، مثل "طلّت البارودة"، و"لا تطلعي من بويتك والهوا غربي"، و"يا واردة ع الميّة"، و"مدّي دياتش يا مِريم"، و"نجمة الصبح"، و"ع الروزانا".
ووصفت سناء موسى الألبوم الجديد بأنّه "خليط من كل ما تمكنت من جمعه طوال سنوات من العمل الشاق، للحفاظ على جزء محوريّ وخاص من ذاكرة الشعب الفلسطيني عامة، والذاكرة الموسيقية له على وجه الخصوص، وتتعلق بموسيقى الساحل، أو أغنيات البحر والصيّادين".
وأشارت إلى أنّه تمت "إعادة قولبتها وتقديمها بروح عصرية ولمسة شبابية، مع عدم خدش أصالتها بطبيعة الحال، كي تستمر مع الأجيال الشابة ومع من يليهم من أجيال أصغر سنّاً، ليستمر حضور الرواية الفلسطينية بكافة أشكالها".