"كلّ ما يلزمك لإنجاز فيلمٍ، مُسدّس وفتاة"، بحسب جان ـ لوك غودار. ربما يكون هذا أبسط تعريف لجمالية نوع "فيلم نوار"، أو الفيلم السوداوي، لكونه يجمع اثنين من أبرز عناصره: مُكوّن الجريمة، أو التحقيق البوليسي، والفتاة الغامضة، التي تجمع بين شكلها الفاتن وتصرّفاتها حمّالة الأوجه، وغير المتوقّعة.
لكنّ هذا ليس كلّ شيء. من أكثر التعريفات تلخيصاً للفرق بين الأنواع المرتبطة بعالم الجريمة، ما قيل عن أنّ الفيلم الذي يُركّز على المُحقّق أكثر من الضحية والمجرم فيلمٌ بوليسيّ (بولار)، أما الذي يُبئّر على الضحية ففيلم إثارة وتشويق (ثريلر)، بينما الفيلم الذي يتتبّع المجرم أكثر من المحقّق والضحية يكون سوداوياً (نوار) غالباً.
أهمّ مُقوّمات الأفلام السوداوية تلك المرتبطة بالأجواء والأخلاقيات: الأجواء القاتمة والمحمّلة بـ"شيءٍ مُظلم آخر يملأ الطرقات غير ظلام الليل"، بتعبير رايموند تشاندلر (أحد أهم مؤسّسي النوع أدبياً، إلى جانب داشيل هاميت وجيمس مالاهان كاين)، بفضل إضاءة مُعتمة، أو مازجة بتضادٍ مُطلق بين المضيء والمظلم، وتأطير يعزل الشخصيات في جوانب الصورة تعبيراً عن العزلة وقلّة الحيلة. جُلّ التأثيرات جلبها المخرجون الأوروبيون (الألمان خصوصاً) في حقائبهم، حين هاجروا إلى هوليوود مُشبعين بالجماليات التعبيرية (الظلال ومؤثّرات التوتر الجاثم)، التي تُترجم ردّة فعلهم القلقة من هيمنة أيديولوجيّة اليمين الفاشي.
أخلاقياً، يُعتبر القطع مع الحدود المانوية ـ التي كانت تميّز الشخصيات الخيّرة عن الشريرة في أفلام الجريمة، المنتجة في ثلاثينيات القرن الـ20 وأربعينياته، في هوليوود ـ أهمّ ما ميّز الأفلام السوداوية، تأثّراً بجماليات الواقعية الجديدة والشاعرية، كما تُعبر عن ذلك جملة الحوار الشهيرة من "قواعد اللّعبة" (1939) لجان رونوار: "كما ترى، هناك شيءٌ رهيب على هذه الأرض، وهو أنّ لكلّ شخص دوافعه". هكذا تحوّلت الشخصية الرئيسية من بطل إلى بطل مُضاد، وأضحت تصرّفاتها أكثر تعقيداً، بحكم أنّها ليست محض اختيار بسيط بين الخير والشرّ، بل نتيجة ردّة فعل على وضعيات خانقة، ودواليب قدرية تخلط الحظّ العاثر بالحتمية السيكولوجية والتراجيدية، وتعانق ثيماتٍ، كالانتقام والتضحية والاغتراب، كما يظهر جلياً في أفلام طبعت النّوع، انطلاقاً من "الصقر المالطي" (1941) لجون هيوستن، مروراً بـ"القتلة" (1946) لروبير سيودماك، وانتهاء بـ"لمسة الشرّ" (1958) لأورسون وِيلز، الذي يُعدّه كثيرون مبلغ جماليات الـ"فيلم ـ نْوَار"، وخاتمة فترته الذهبية في هوليوود.
بطبعه، الـ"فيلم نْوَار" نوع عصي على التّعريف، لمزجه بين المدارس والتأثيرات، ما يجعله نوع الحداثة السينمائية بامتياز. هذا استدعى خلق تعريف جديد، يُترجم تطوّره مع نهاية حقبة هوليوود الكلاسيكية الذهبية، نهاية خمسينيات القرن الـ20، إلى ما أطلق عليه "نيو ـ نْوَار".
مرتكز هذا التطوّر ما عبّر عنه بول دونكان ويورغن مولر، في كتابهما "فيلم نْوَار ـ أفضل 100 فيلم على الإطلاق": "الجديد في هذه الأفلام أنّ في استطاعتنا تمييز تأثير التحوّلات الاجتماعية المعاصرة فيها، مقروناً بانعكاسات تطوّر التكنولوجيات الحديثة على الفنّ السابع". من دون نسيان أحد أهمّ سمات السينما الحديثة، المتمثّلة في المزج بين الأنواع وتداخلها. "بلايد رانر" (1982) لريدلي سكوت مثلاً، فيلم "نيو ـ نْوَار" في العمق، لأنّه بجمالية التساؤل حول مكان الإنسان في الكون، التي طبعت سينما السبعينيات والثمانينيات الفائتة، نحو تصوّر مستقبلي، من خلال تموقعه في منطقة هجينة بين الفيلم البوليسي وفيلم الخيال العلمي والغموض السيكولوجي. كما أنّه يتجاوز فكرة البطل المضاد، الذي لا يلتزم قواعد الحقّ والباطل، إلى أنْ يجعل من طبيعة البطل نفسها محلّ غموضٍ، لا يزال يثير نقاشاً محتدماً بين من يعتقد أنّ ريك ديكارد إنسانٌ مُخيّر بين الخير والشر، ومن يعتبره "أندرويد"، يُنفّذ برنامجاً مُخطّطاً سلفاً من قبل مهندسي شركة "تايرل".
هذا كلّه متأثّرٌ بالتساؤلات اللأخلاقية عن تطوّر الذكاء الاصطناعي، التي أضحت قابلةً للانتقال إلى الشاشة، بفضل التأثيرات البصرية، المرتكزة على المزج بين الخلفيات المرسومة على الزجاج وإعادة التصوير بالشريط الفيلمي نفسه مرات عدّة، مانحةً "بلايد رانر" طابعه البصري الفريد، الذي لا يزال موضع دهشة وإعجاب إلى اليوم.
لتوضيح قدرة "نيو ـ نْوَار" الحداثية المذهلة على استيعاب طرح تحيينيّ للأسئلة المرتبطة بحاضر التحوّلات التكنولوجية المجتمعية، هناك "إكس ـ ماكينا" (2014) لألِكس غارلاند، باعتباره أول فيلم مذهل لمخرجه يستغل تطوّر المؤثرات البصرية، التي تخلط بين المَشاهد الملتقطة للواقع والصُوَر المنشأة بالحاسوب، ويستمدّ سوداوية الأجواء من عناصر جديدة، تعكس عزلة وتسطيح وبرودة عوالم تكنولوجيا الارتباط الرقمي اللاسلكي. كما يحمل الأسئلة نفسها، المتعلّقة بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، الحاضرة في "بلايد رانر"، لكنْ بتركيزٍ أكبر على كنه الوعي، ومدى اختصاص الإنسان به، وإمكانية بثّه داخل ما يبتكره من آلات وأنظمة، من دون أن تتمرّد هذه الأخيرة، مُتسبّبة بالفوضى ودمار الجنس البشري.
خطّ ثيمة الذكاء الاصطناعي، الرابط بين "إكس ـ ماكينا" و"بلايد رانر"، مهمّ في جماليات الـ"نيو ـ نْوَار"، لأنّ أفلاماً مؤثّرة عدّة تتموقع عليه، منها: "ألفافيل" (1965) لجان ـ لوك غودار، وساغا "ترمينايتور" (1984 ـ 2019) لجيمس كاميرون، و"روبوكوب" (1987) لبول فرهوفن، و"ذو ماتريكس" (1999) للأخوين واتشوفسكي. هناك خطوط أخرى لا تقلّ أهمية، كالمتعلّق بدور وسائل الإعلام في المجتمع، والأخلاقيات المرتبطة بها: "ذا بارالاكس فيو" (1974) لآلان باكولا، و"مان هانتر" (1986) لمايكل مانّ، و"زودياك" (2007) لديفيد فينشر، و"المتسلّل ليلا" (2014) لدان غيلروي.
يظلّ "نيو ـ نْوَار" أكثر الأنواع عكساً للانشغالات المعاصرة للإنسان، مستفيداً من ضبابية حدوده، وتموقعه في المشترك بين أنواعٍ فيلمية عدّة، ونوع الجريمة. امتيازٌ يمكن إجماله في خاصية المرونة والتأقلم المستمرّ، لمُعانقة التحدّيات المستجدّة، والإبتكارات الجديدة، في آنٍ واحد.