في تاريخ السينما، أفلامٌ وثائقية غير قليلة خُصّصت لنقّاد سينمائيين، كسيرج داني في Itineraire D’un Cine-fils لبيار ـ أندره بوتان ودومينيك رابوردان (1992)، وميشال سيمان في "تقاسم السينما" (2010) لسيمون لِنِي، وروجر إيبرت في "الحياة نفسها" (2014) لستيف جايمس. قبل وقتٍ، أعلن كوانتين تارانتينو أنّ فيلمه التخييلي المقبل (أيكون الأخير حقاً كما يقول؟) سيدور في سبعينيات القرن الـ20، وسيتناول ناقداً سينمائياً كلبيّ النزعة، يكتب في مجلة بورنوغرافية، وصفه بـ"مزيج من هوارد ستيرن في سنواته الأولى، وترافيس بيكل لو كان ناقداً سينمائياً".
صفاتٌ ليست غريبة تماماً عن كارلوس بورييو، الناقد في "إل باييس"، اليومية الإسبانية الأكثر مبيعاً، الذي تمحور حوله فيلمٌ وثائقي لخافيير موراليس بيريز وخوان زافالا بعنوان "الناقد" (2022، إنتاج TCM). فيلمٌ كثيفٌ، لم يتلاف كلّ مساوئ وثائقي الشهادات ("الرؤوس المتحدّثة"، بالتعبير الإنكليزي)، واتّسم بالجنوح إلى التوضيح عبر تطابق ما يُرى وما يُسمع في بعض مقاطعه. لكنّه توفّق في إنجاز بورتريه صادق ووفيّ (بتعدّد وجهات النظر) حول شخصية معقّدة لناقد سينمائي، طبعت مقالاته في 40 عاماً تأثيراً كبيراً على كتابة العمود الصحافي في إسبانيا، وفي استعراض التحوّلات العميقة التي عرفتها ممارسة النقد في العقود الأخيرة، على خلفية الحكي.
بعد مقدمة تشويقية، فيها مقتطفات من انطباعات كتّاب وسينمائيين إسبانيين عن شخصية بورييو، ينطلق الفيلم من مشهد حلوله في فندق لتغطية فعاليات الدورة الـ69 (17 ـ 25 سبتمبر/أيلول 2021) لـ"مهرجان سان سيباستيان السينمائي الدولي"، ليغدو شعور الوحشة، الذي يلفّ الناقد وحيداً في غرفته، مطيّةً لـ"فلاش باك"، يعود إلى طفولته في "سالامانكا"، وكيفية عشقه السينما تأثّراً بوالده، واكتشاف أفلام كـ"المحتال" (1961) لروبيرت روسّين، قبل أنْ يؤدّي التحاقه بمدرسة يديرها رهبان مسيحيون، عاملوه بقسوةٍ وصلافةٍ، إلى قطيعةٍ نهائية مع الدين، وانغماس كلّي في الأدب والسينما. ثمّ كيف أدّت به نتائجه المتذبذبة في الدراسة الثانوية إلى خوض حياة بوهيمية وماجنة، في دراسته الجامعية، التي لم يحفل فيها بالدروس والامتحانات، بينما كان يشاهد الأفلام ويقرأ الكتب كما يتنفّس.
رحلته عام 1972 إلى مدريد، بصالاتها السينمائية العريقة ونوادي القمار التي لا تنام، مدخله (بتوصية من فيرناندو ترويبا، الذي اشتغل في الصحافة قبل انتقاله إلى الإخراج) إلى كتابة أول مقالاته، التي تصف ليل العاصمة، والأفلام المعروضة فيها.
شيئاً فشيئاً، بدأ بورييو يكتسب صيتاً كناقدٍ لاذع ذي أسلوب ساخر، عماده جملٌ مقتضبة، وصيغة كتابة متفرّدة بضمير المتكلّم، تعبّر عن شعوره إزاء ما يشاهده من أفلام، لاقت شعبية كبيرة في مجلة "لا غيا دِل أوسيو"، قبل طرده منها بضغطٍ من موزّعي الأفلام، الذين هدّدوا بوقف إعلاناتهم فيها إذا لم توقف نشر مقالاته غير الرحيمة بالأفلام الأميركية، التي كانوا يوزّعونها. رفع الكاتب الشاب قضية تعويض ربحها ضد المجلة، والتحق بجريدة "إل موندو" المشهورة، ليربح علاوة على ذلك قاعدة قرّاء أوسع، عزّزت من تأثيره في منظومة السينما الإسبانية.
يتبنّى المخرجان موراليس بيريز وزافالا تقنية عرض صُور فوتوغرافية من ماضي بورييو، ورقاقات شفّافة (على خلفية ضوئية) لعناوين وقبّعات من مقالات تختزل مساره، وتقرّب المشاهد من أسلوبه في نقد الأفلام. تختلف الآراء حول ذوقه بين من يعتبره رجعياً أو كلاسيكياً أكثر من اللازم، وأغلبهم ناقدات شابات يبدين انزعاجهنّ ممّا يعتبرنه ميزوجينية وكراهية للمثلية الجنسية، تنعكس في آرائه حول الأفلام؛ وسينمائيين وكتّاب يعتقدون أنّ آراءه تعكس توجّهاً ضرورياً وثميناً، لأنّه يمثّل عدم التقيد بالصوابية السياسية، ومدرسة نقدٍ صارمٍ وحاسمٍ في طريقها إلى الانقراض، في زمنٍ طغت عليه توجّهات النسوية الأولية، والمقالات المهادنة، تحت غطاء تشجيع السينما الحديثة، أو إعلاء قيم التضامن مع الأقليات.
بينهما رأي ثالث، لعلّه الأقرب إلى الصواب. لا يوافق بورييو في كلّ آرائه التي تحكم على جلّ الأفلام المُجدّدة (كأعمال التايلاندي آبيشاتبونغ ويراسيتاكول)، أو الملتزمة قضايا الأقلّيات، انطلاقاً من الشعور الذاتي بالملل أو التقزّز الذي يحسّ به عند مشاهدتها، لكنها تتمسّك بحقّه في التعبير عن راديكاليته في الحكم، ومن بينهم مخرجون من الجيل الجديد نسبياً، كمانويل مارتن كوينكا، الذي يتذكّر عنوان مقالةٍ "قاتلةٍ" من بورييو عن فيلمه "كانّيبال" (2013) بابتسامة تسامحٍ عريضة على وجهه، وأليكس دي لا إغليسيا، الذي يقول إنّه يفضّل مقالة هجاءٍ في فيلمه من كاتبٍ يملك ثقافة بورييو، على نصّ مديحٍ يكتبه ناقدٌ دون المتوسّط.
في غمرة تحليل التحوّلات العميقة التي عرفها النقد السينمائي في العقود الأخيرة، يظهر الفيلم كيف أنّ شخصية بورييو، الذي يكاد لا يفقه شيئاً في وسائل التواصل الجديدة على الإنترنت، تعبّر عن عالمٍ في طور الاختفاء، إذْ تقلّصت مقروئية المقالات النقدية، وانخفض تأثير النقاد على مصير الأفلام في شبّاك التذاكر، وازدادت هشاشة أغلبيتهم، لاضطرارهم إلى مزاولة مهن أخرى لكسب عيشهم، ومواجهة صعوبات في تغطية المهرجانات على نفقاتهم الخاصة، عكس أغلب نقاد الصحافة التقليدية من جيل بورييو، ممن تدفع لهم الصحف نفقات السفر والإقامة في أفضل الفنادق.
ينزلق "الناقد"، في أفضل مقاطعه، إلى مَشاهد تمزج العام بالخاص، والمهني بالحميمي، لإقفاء الجانب المظلم والهشّ في شخصية بورييو، وكيف عانى إدمان المخدرات والكحول، والعزلة التي يعيشها، لولا أنّ الصداقات (إحدى الميزات القليلة التي تمنحها مهنة النقد، رغم جحودها، والعداوات التي تخلقها أيضاً) شكّلت ملاذاً ساعده على استرجاع التحكّم في حياته واختياراته.
عداواتٌ كثيرة خلقها كارلوس بورييو في مسارٍ، تخلّلته قضايا أثارت ضجة كبيرة، وأسالت حبراً كثيراً، اختار الفيلم أن يُبئّر على اثنتين منها: أولاهما عريضةٌ كتبها فيكتور إريثي وخوسي لويس غيران، ووقّعها عشرات السينمائيين ضدّه، اتّهمته بالإخلال بمهمته كناقد، والاستخفاف بمسؤوليته كصحفي إزاء قرّائه، بعد كتابته أنه خرج من عرض "شيرين" لعباس كياروستمي في "مهرجان فينيسيا" بعد مرور ساعة، مُحرّضاً الموزعين الإسبان على عدم اقتناء حقوق الفيلم. والثانية رسالة وجّهها بيدرو ألمودوفار على مدوّنته إلى "إل باييس"، مُستغرباً كيف أن إدارة "هذه الصحيفة العريقة" لم تجد "أفضل من بورييو" لتغطية مهرجان "كانّ"، خاصة أنه يُكنّ لها معزّةً خاصة، بحكم أنّها شقّت خطواتها الأولى بالموازاة معه غداة وفاة فرانكو، في منتصف السبعينيات الماضية، ودافعت عن أعماله الأولى.
لكنّ بورييو لم يكن يُفوّت فرصة لنعت أعماله الأخيرة بـ"المملّة" و"الحمقاء"، وأنّها "لم تحرّك فيه شيئاً حسّياً أو فنّياً، عدا شعور التقزّز". لكنّ إدارة "إل باييس" لم ترضخ للضغوط في الحالتين، ودافعت عن حرية ناقدها في التعبير عن آرائه، ونشرت رسائل مناوئيه التزاماً بحرية نقد النقد، مُتحجّجةً بحكمة بيار أوغستان دو بومارشيه: "من دون حرية إلقاء اللّوم، لا مجال لإطراءٍ مغرٍ".