يُشاهد الناقد صُوراً تتدفّق من فلسطين بغزارة، فيُلحّ سؤال السينما عليه. أيّ أفلام ستُنجز، ومتى؟ الحرب الجديدة هذه، التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين والفلسطينيات في بلدهم المحتلّ، هل ستُحرِّض السينما على إنتاج أفلامٍ عنها ومنها؟ هل ستكفي الصُور، الفوتوغرافية والتلفزيونية والفيديوية، التي توثِّق اللحظة؟ أم أنّ للّحظة تداعياتٍ وتبعاتٍ، يُفترض بالسينما أنْ تكون حاضرة لالتقاطها، والتقاط اختباراتها؟
كلّ حربٍ تُشنُّ ضد أناسٍ وبلدٍ واجتماعٍ، إنْ تكن حربَ مُحتلٍّ أو حربَ حاكمٍ فاشيّ، تستحقّ صُوراً كثيرة، تحفظ راهنها من الاندثار، وتنقل الراهن "إلى من يهمّه الأمر". تستحقّ صُوراً تواكب أحداثاً وتخريباً وقتلاً وتهجيراً ومواجهات، من دون تناسي صُور القاتل، التي توثِّق تعذيبَه المعتقلين، وانتشاءه المخيف بعنفه ووحشيّته.
ما يُقال عن بدايات الثورات في تونس ومصر وسورية مثلاً، يُقال دائماً: للهواتف الذكية دورٌ كبيرٌ في التسجيل والتوثيق الآنيّ، وهذا مهمّ وضروري. للكاميرات الصحافية دورٌ مطلوبٌ أيضاً، بصرف النظر عن التوجيه الإعلامي الذي يُمارَس عليها، فهذا منوطٌ بالخطّ التحريري للمحطّات التلفزيونية، ولكلّ محطة ارتباطٌ ومواقف وسياسات، يُمكن للمهتمّ "إزالتها" عند معاينته الصُور المبثوثة على شاشاتها، أو المخزَّنة في أرشيفاتها، إنْ يكن مُحتاجاً إلى صُور كهذه لغرضٍ ثقافي أو فني أو سينمائي.
صُور القاتل ـ التي يلتقطها ليتباهى بأفعاله الجُرمية، أو لإثارة رعبٍ إضافيّ في نفوسٍ وعقول ـ تتحوّل إلى وثيقةٍ حسّية تقول شيئاً من جرم يُرتَكب، بأصنافه المختلفة. هذه مهمّة أيضاً، فالسينما بدورها تحتاج إلى صُورٍ كتلك. وإذْ "يُخفي" القاتل صُوره، فلوقتٍ، تُفتَح بعد انقضائه خزائن الذاكرة، لتأكيد مُتداولٍ ومَعيش ومعروفٍ زمن التقاط الصُور، أو لكشف مخبّأ ومحفوظٍ كأسرارٍ.
حرب إسرائيل على الفلسطينيين والفلسطينيات تختلف قليلاً، فالعنف طاغٍ وكثير، والمواجهات محتدمة. كأنْ لا وقتَ لغير الفوتوغرافيّ والتلفزيونيّ والفيديويّ. فالكاميرا، إنْ تَجنح ولو قليلاً إلى السينما، غير مُتمكّنة من العثور على حيّز لها في مشهد آنيّ كهذا. كثافة النيران تحول دون أيّ حضور لسينما مُنتظرة، وهذا حاصلٌ في أوقاتٍ تُشبه ما يحدث الآن في فلسطين، التي تبدو كأنّها محتاجةٌ إلى صُور كتلك أكثر من أيّ شيء آخر، رغم أنّ للسينما اشتغالاتٍ تقول إنّ فلسطين هنا، فترويها كما تروي حكايات ناسها وانفعالاتهم وأمزجتهم وعلاقاتهم وتأمّلاتهم.
والسينما ـ بكسرها تابوهات كثيرة في اجتماعٍ غير مختلف عن اجتماعٍ عربيّ، في تقاليده وأهوائه وموروثاته ـ قابلةٌ لأنّ تنتظر نهاية فصلٍ آخر من فصول الحرب الإسرائيلية الدائمة على الفلسطينيين والفلسطينيات، في بلدهم المحتلّ. فاللحظة مرهونةٌ لمعركة وجود، والمواجهات العسكرية معقودةٌ على إثبات "توازن رعب"، والصُور المتدفّقة من فلسطين وعنها تعكس وقائع يومية، بعيداً عن كلّ تفسير سياسي أو أيديولوجيّ أو ثقافي، فابتعادها هذا يقول إنّ الفعل الأخلاقي في التقاط الصُور من الواقع أقوى من كلّ شيء؛ وإنّ الأولوية لتلك الصُور كصُور، الآن هنا.
استعادة السينما الفلسطينية، قديمها وحديثها، تحتاج إلى قراءات أعمق وأوسع من مقالةٍ. فللقديم رونقه، وإنْ تخفّ قيمه الجمالية والدرامية والتوثيقية (التسجيلية) قليلاً، عن قيم النتاج الحديث، المصنوع منذ نهاية ثمانينيات القرن الـ20. الصُور، الفوتوغرافية والفيديوية أساساً، تصلح لأفلامٍ وثائقية، تنفض عنها تقاليد الفيلم التسجيلي، وركائز الفيلم الوثائقيّ العاديّ، متيحة للتجديد الوثائقيّ منفذاً لإشهار براعته السينمائية في صوغ حكايات وغليان وانفعالات وحالات وتفاصيل، قديماً وحديثاً وراهناً.
كلّ فصلٍ من فصول الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والفلسطينيات يُنتج كمّاً من الصُور، بعضها يتحوّل لاحقاً إلى أفلامٍ، وبعضها الآخر يُفيدُ ـ بشكلٍ ما ـ في صُنع أفلامٍ. التجارب الماضية دليلٌ. اللحظة الراهنة منشغلة في إثباتٍ إضافيّ للحقّ الفلسطيني، ولوحشية المحتلّ الإسرائيلي.
المقبل من الأيام يحتمل توقّعات وتمنّياتٍ. السينما آتيةٌ بالتأكيد.