أيمكن لناقدٍ سينمائي، علاقته مرتبكةٌ أصلاً بمهرجانات سينمائية دولية، بعضها مُصنّف "فئة أولى"، أنْ يُعلن عدم رغبته في متابعة أيام دوراتها السنوية، لنفورٍ من حالةٍ عامة، ولشعورٍ بأنّ ارتباكاتٍ تُصيبها، ولميلٍ (شخصي/ذاتي) إلى مهرجانات أخفّ صخباً، وفي العالم مهرجانات كهذه أيضاً، مهمّة ومفيدة؟ أيمكن لناقدٍ ألا يرى أي أهمية في منحه فرصة مشاهدة فيلمٍ "طازج"، يُعرض للمرّة الأولى في العالم، طالما أنّ الفيلم المذكور سيُشَاهَد وإنْ بعد وقتٍ، وطالما أنّ التقنيات الحديثة توفّر مشاهدات جيدة، وإنْ خارج صالة السينما، وإنْ بعيداً عن 3 آلاف أو 4 آلاف ناقد وصحافي سينمائي من دول مختلفة، يلتقون في صالة واحدة، ويُشاهدون الفيلم معاً بصمتٍ مطبق، وتورّط سينمائي رائع؟ ماذا تعني "مُشاهدة فيلمٍ يُعرض للمرة الأولى في العالم"؟ أهذه نشوة أم متعة؟ ما النشوة في مُشاهدةٍ كهذه؟ ما متعتها؟
قبل يومٍ واحد على افتتاح الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ"، يسأل الناقد، من دون ادّعاء وتنظير وفذلكة. هذا مهرجان يبقى، رغم كلّ شيء، أهمّ ملتقى سينمائي في العالم، والبعض يعتبره هكذا مع مهرجاني برلين وفينيسيا. التساؤلات غير منبثقة من وضع استثنائي لمهرجان، يُكلَّف ألف شرطي ورجل أمن مهمة حماية دورته الجديدة هذه من كلّ اعتداء أو إرباك، ففرنسا برمّتها تعاني آثار تعديل قانون التقاعد، ومؤسّسات فاعلة تُنذر بإضراب وتظاهرات ضد المهرجان (الكهرباء والنفايات والنقل تحديداً)، ما يؤذيه، ويُربك ضيوفه.
تساؤلات الناقد متحرّرة من الآنيّ، رغم أنّ في الآنيّ شيئاً يحرّض على طرحها، أبرزها "شيخوخة" المهرجانات الأساسية، وأولوية البحث عما يؤهّلها ويُطوّرها، ويُبدِّل شيئاً من واقعها. تساؤلات يحاول الناقد، عبرها، فهم المغزى من حضور مهرجانٍ، ومشاهدة أفلام جديدة، مع آلاف الناس، وعيش أيامٍ ضاغطة بين المُشاهدة والمتابعة المهنية، وسهرات النمائم مع أصدقاء/زملاء. تساؤلات متأتية من شعور شخصي بحت، يقول بعدم جدوى الخضوع لضغوط كهذه، في أيامٍ قليلة، بحجّة أنّ هذا يستحق عيشَ ضغوطٍ، فالمهرجان أوّلٌ في العالم، وغالبية أفلام مسابقته، وأفلام برامج وأقسام أخرى، اكتشافات مُنتظرة.
يصعب (كي لا تُستَخدَم مفردة "يستحيل") على ناقدٍ أنْ يكتب نقداً عن فيلمٍ، في أيام الدورات السنوية لهذا المهرجان أو ذاك. النقد يحتاج إلى هدوء وتركيز ونقاش داخلي مع الفيلم وصانعه، وتفاصيله أولاً. المهرجان صاخب، ووتيرته اليومية متعِبة، وأفلامه كثيرة، والمهنة حاضرةٌ ومُلحِّة. هذا يعني أنّ المتابعة صحافية سينمائية، ولهذه المتابعة قواعد ومتطلّبات مهنيّة، لن تخفي بعض النقد، وهذا ضروري وأساسي. المُشاهدة بحدّ ذاتها مُتعِبة، لوفرة الأفلام، ولضرورة إيجاد وقتٍ للمهنة، وإنْ تكن الأفلام كلّها غير معروضة سابقاً، وولادتها الفعلية حاصلةٌ في مهرجان "كانّ"، ومهرجانات أخرى أيضاً.
ألن يكون هذا دافعٌ إضافي إلى التساؤل عن جدوى حضور مهرجان، خاصة أنّ الأفلام ستُعرض لاحقاً، وأنّ كثيرين/كثيرات سيُشاهدونها، في أوقاتٍ وحالاتٍ أخرى؟
في السابق، عجزٌ عن إيجاد إجابات حاسمة. لعلّ عدم العثور عليها جزءٌ من سحر السينما وجمالياتها. لعلّه (عدم العثور) أفضل أيضاً. لعلّ لا شيء جميل أو ساحر. لعلّ التساؤلات كلّها غير نافعة وغير مهمّة. لا أعرف. السابق تمرينٌ على مساءلةٍ مشروعة، يكون الشخصي/الذاتي أساسياً فيها، وكلّ علاقة بالسينما، مُشاهدةً وثقافة ومهنة، شخصية/ذاتية أولاً.