احتضنت قاعة مؤسسة عبد المحسن القطان في مدينة رام الله، مساء أمس السبت، أمسية هي الأولى من نوعها للموسيقى الفصحى العربية المُعاصرة في فلسطين.
كانت البداية مع كلمات الشاعر الفلسطيني، تميم البرغوثي، وتحديداً في "البردة" أو ما بات يعرف بـ"بردة تميم"، وعارض فيها كلاً من البوصيري وأحمد شوقي، على وقع موسيقى المصري مصطفى سعيد، مؤسس مجموعة "أصيل" للموسيقى الفصحى العربية المُعاصرة، في مقطوعتين للفنان الفلسطيني شادي وراسنة ورفاقه.
تفاعل الجمهور بشكل لافت، وأبدى إعجابه تصفيقاً وصيحات "الله" تلقائية، إثر ما قدمه الفريق الموسيقيّ الشبابيّ من موشّحات ومدائح بنمط موسيقى مُغاير.
وحملت الأمسية عنوان "موسيقى فصحى عربيّة مُعاصرة"، وقدّمت مشروعاً فنياً موسيقياً يرتكز على التراث النغمي العربي كسند ودافع للتطور الموسيقي، فيما عرضت الأمسية عيّنة من أنغام عربية متنوعة، إلى جانب أنغام من تجربة الفنان مصطفى سعيد بشكل خاص، وهو واحد من روّاد هذا المشروع.
وأبدع وراسنة صاحب الصوت المتميّز، ورفاقه الملتحفون بأردية بيضاء، وعلى مدار قرابة الساعة في تقديم التواشيح والمدائح النبوية، ومنها ما كتبه عبد الجبار عاشور ولحّنه الموسيقار الفلسطيني روحي الخماش، الذي اشتهر في ما بعد نكبة عام 1948 بالعراق، بعد أن هاجر إليها، بحيث بات من أشهر الموسيقيّين هناك، وتتلمذ على يديه نخبة من أبرز المبدعين العراقيّين، وبينهم نصير شمّة.
و"الموسيقى الفصحى العربية المُعاصرة"، حسب وراسنة، تقوم على فصاحة الموسيقى وليس فصاحة الكلام المُغنّى فحسب، ففصاحة الموسيقى تعني كونها موسيقى عربية كلاسيكيّة، بحيث ينطبق على الموسيقى ما ينطبق على اللغة، فثمة "موسيقى فصحى" و"موسيقى دارجة"، وهو وصف لم يبتدعه مصطفى سعيد، بل ورد في كتاب "الأغاني" لأبي فرج الأصفهاني.. وتبعاً لهذا التعريف، فقد يكون، وخاصة هذه الأيام، "الغناء فصيحاً والشعر بالدارجة، والغناء عاميّاً والشعر فصيحاً".
أمّا "المُعاصرة" فهي جاءت بناء على قراءة الفنان مصطفى سعيد لحركة تاريخ الموسيقى العربية بوصفها تراكماً ذاتيّاً لها سياقاتها وشروطها الزمانية والمكانية، وتبعاً للمشروع الاستعماري الغربي الذي حال دون تطوّر الموسيقى العربية ذاتيّاً، بحيث انعكس ذلك التأثير الناجم عن الاختراق الاستعماري على الموسيقى العربية وغيرها، ما جعل الموسيقيّين العرب يستدخلون المستورد إلى موسيقانا شيئاً فشيئاً، حتى صار أفق التطوّر الذاتي للموسيقى العربية مُشوّشاً.
ولفت إلى أن "النغم العربي الفصيح تاريخياً شمل الديني والدنيوي، بمعنى أن كليهما كانا يعملان وفق النظام النغمي العربي، وحين بدأ إدخال المستورد إلى النغم وتبنّي منطق الاستعمار فيه بدأ إسقاط النغم الفصيح عن الموسيقى الدنيوية، وبات محصوراً في النغم الديني الذي حفظ لنا هذه التقاليد الموسيقية المرتبطة بالنغم الفصيح، ونظاميه المقامي والإيقاعي.
وشدد وراسنة على أن مشروع "المُعاصرة" في الموسيقى الفصحى العربية، يقوم على اعتماد التراث الموسيقي العربي كظهر يتم الاتكاء عليه، وكدافع إلى التجدّد الذاتي من الداخل، ولعل هذا ما لوحظ من إدخالٍ لآلات موسيقية غربية في أمسيته ورفاقه، حيث "التشيلو" وبعض الآلات الإيقاعية، بحيث تكون "المُعاصرة" ليس فقط في التأليف الموسيقي، بل في الأداء أيضاً.
وواصل الفنّانون الفلسطينيون "سلطنة" الحاضرين في حضرة موسيقى روحانية لمصطفى سعيد في جلّها، ومن بينها "مريضة الأجفان.. علّلاني بذكرها" لمحي الدين بن عربي، أحد روّاد الصوفيّة وأعلامها، وكان غناها قبل عقود ومن ألحانه الفنان اليمني القدير الراحل أبو بكر سالم.
وحضرت مقطوعات أخرى بينها "تجلى النور" لعملاق القدود الحلبية صباح فخري، وأنشودة "طلع البدر علينا"، قبل الاختتام بأنشودة "أتيناك بالفقر يا ذا الغنى" للسوري توفيق أحمد الكركوتلي المعروف بـ"توفيق المنجد"، والمولود في دمشق عام 1910، وكانت مدائحه النبويّة وأناشيده الدينيّة تذاع في شهر رمضان المبارك، وتحديداً وقت السحور، حتى لُقّب بـ"بلبل الشام"، وبات المنشد الأول في غالبية حلقات الفرقة الصوفية، وبقي رئيساً لرابطة المنشدين في سورية حتى رحيله عام 1988.
وأشار وراسنة لـ"العربي الجديد" إلى أنه لا يسعى لتقديم إضافة ما في إطار هذا النمط الموسيقي، "بقدر المساهمة في لفت النظر إلى الموسيقى العربية الفصيحة"، والإضاءة عليها، لافتاً إلى أن الحضور الفلسطيني فيما قدّموه كقصائد تميم البرغوثي ولحن روحي الخماش يندرج في إطار الموسيقى والشعر العربيّين، أكثر من كونه "قوميّاً فلسطينيّاً".
يُذكر أنه رافق وراسنة في الأمسية، الفنّانون: حمزة شخشير وحسين الريماوي على الإيقاع، وفارس أمين على التشيلو، وماهر الشافعي على الكمنجة، وأدهم خمايسة على القانون، وفراس أغبر على العود.