في جميع أنحاء العالم، يواجه المتضامنون مع الفلسطينيين في قطاع غزة، منذ بدء العدوان الإسرائيلي، قمعاً ومحاولات دؤوبة لإسكات أصواتهم. وبطبيعة، الحال فإن هذه الممارسات ممتدة إلى الفلسطينيين أنفسهم، خصوصا فنانات وفنانين نشطوا في دوائر تأثيرهم. من هؤلاء، ثلاث سيدات فلسطينيات اهتمت الدوائر الإعلامية بتغطية ما حدث معهنّ.
فنانات في مهب المنع
الأولىمن، هي الفنانة التشكيلية البارزة سامية حلبي (1936)، وكان من المفترض أن يفتتح معرضها الاستعادي الأول الشهر المقبل في متحف إسكنازي للفنون في جامعة إنديانا الأميركية، إلا أنها فوجئت أواخر ديسمبر/كانون الأول بقرار إلغائه، تحت زعم "المخاوف المتعلقة بالسلامة".
في هذا الخصوص، أجرت الفنانة الفلسطينية مقابلة مع برنامج "الديمقراطية الآن"، وهو برنامج غير ربحي، يمول من خلال تبرعات المشاهدين، ولا يقبل تمويلا من القطاع الخاص أو المؤسسات الحكومية، ويبث من مدينة نيويورك عبر 1000 شبكة للإذاعة والتلفزيون والأقمار الصناعية.
في الحلقة التي أذيعت أخيراً، وصفت حلبي قرار الجامعة بأنه "يتعدى قضيتها بكثير". وقالت: "ما حدث هو أن الإدارة تخلت عن مسؤوليتها تجاه طلابها أولاً، ومجتمعها ثانياً"، مضيفةً: "إنهم يحاولون منع الطلاب، الذين هم الأكثر تقدمية في البلاد اليوم، من المضي قدماً في التفكير بحرية في الشأن السياسي. أعتقد أن هذا الإلغاء ضدهم بقدر ما هو ضدي".
وعما تتصور أنه كان وراء إلغاء معرضها، تقول: "من الممكن أن يكون كل شيء. لم يعطوني أي سبب واضح، ولم يتحدثوا معي إطلاقا. لذلك، لدي تصور، من مكالمة هاتفية قصيرة جداً مع مدير المتحف، بأن دعمي لفلسطين وانتقادي إسرائيل وشراكتها مع الولايات المتحدة، ورفضي للمذبحة التي لا تصدق في غزة، هي السبب".
وعن سؤال حول إيقاف البروفيسور عبد القادر سنو عن العمل، وهو عضو هيئة تدريس في جامعة إنديانا لما يقرب من عقدين، بسبب موقف مشابه، تقول حلبي: "هناك قمع للطلاب في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وهناك قمع لأعضاء هيئة التدريس. هذا مؤشر على فجوة كبيرة تتسع بين الطبقات الإدارية والحكومة من جانب والطلاب والأساتذة والعمال والموظفين وعامة السكان في هذا البلد، من جانب آخر".
استطردت التشكيلية الفلسطينية: "ترون ذلك بوضوح شديد في المظاهرات الضخمة التي تخرج ليس فقط في الولايات المتحدة، بل في جميع أنحاء العالم، لكن الحكومات تتجاهلها".
وأضافت: "هذا التجاهل التام لما يطلبه الناس، يحدث بشكل مصغر في جامعة إنديانا، وهذا هو الشيء الذي أتحدث عنه بالذات. لم يعد الإداريون مدينين بأي شيء للطلاب وأعضاء هيئة التدريس أو لمناخ تعليمي حر ومفتوح، كما لو كان الخلاف والاختلاف في الرأي شيئا سلبيا". وختمت تصريحاتها، مشيرة إلى أن ما يحدث هو "محاولة للسيطرة على العقل".
تأجيل إلى "وقت أكثر أمنا"
في ذات الحلقة، تحدثت فنانة فلسطينية أخرى، هي المخرجة إميلي جاسر، الحائزة على عدة جوائز مرموقة، منها جائزة الأسد الذهبي، وجائزة الأمير كلاوس، وجائزة "هوغو بوس" من متحف غوغنهايم، كما فازت بجائزة الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب.
تحدثت جاسر التي تشغل حاليا منصب المدير المؤسس لدار يوسف نصري جاسر للفن والأبحاث في بيت لحم، حيث ولدت، عن فعالية كان من المفترض أن تقدمها من خلال إحدى الجامعات الألمانية، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكنها فوجئت بقرار إلغاء استضافتها.
تقول: "كان من المفترض أن ألقي كلمة في برلين كجزء من ورشة عمل في جامعة بوتسدام. وعندما ألغوا الحدث، أخبروني أنهم سيؤجلونه "إلى وقت أكثر أمنا". نفس الأمر حدث مع سامية، وهذه إحدى المنهجيات التي يتم استخدامها لمنعنا من التحدث علنًا.
وأضافت الفنانة الفلسطينية إن "الوضع في ألمانيا، كما نعلم جميعا، هو الأكثر تطرفاً لبالنسبة لمحاولات إسكات الفلسطينيين، يمكن أن نعتبره جزءاً من جهد حربي أكبر يستهدف الأصوات المتضامنة والمثقفين الفلسطينيين، باستخدام منهجيات مختلفة، بما في ذلك المضايقات، وحملات التشهير التي لا أساس لها، وإلغاء العروض. لهذا، فإن الأمر، كما أرى، جزء كبير من حركة منظمة".
وعن سؤال حول النماذج التي اُتخذت ضدها إجراءات مماثلة بسبب مواقفها الداعمة لفلسطين، تجيب جاسر: "أعتقد أنه من أوائل تلك الحوادث ما جرى مع الكاتبة المعروفة عدنية شبلي، التي كان من المقرر أن تحصل على جائزة في ألمانيا. هناك أيضا أختي آن ماري التي ألغي لها عرض أحد أفلامها منذ عدة أسابيع، بالتلفزيون الألماني". واستكملت إميلي: "هناك كذلك الفنانة الجنوب أفرقية كانديس بريتز، وكثير غيرهم. القائمة لا نهاية لها".
وحول ما تستهدفه تلك الممارسات، تشير الفنانة الفلسطينية إلى أن الهدف يتمثل في "خلق ثقافة الخوف بين مجتمع الفنون على مستوى العالم، من خلال حملات التشهير التي تهدد وظائف الناس".
وعما حدث معها، في هذا الإطار، ذكرت جاسر: "كانت هناك حملة لكتابة الرسائل ضدي لكل جامعة درست فيها على المستوى الدولي، كذلك حصل كل شخص أو مؤسسة أعطتني جائزة على خمس صفحات PDF ملخصها أنني إرهابية أنتمي إلى داعش، وأدعم اغتصاب النساء وقتل الأطفال".
تتابع: "في حالتي الأشخاص الذين تلقوا تلك الرسالة، يعرفونني بحكم عملهم معي لمدة 25 عاماً، لذلك بدت هذه الرسائل سخيفة جدا. لكن ماذا عما قد يحدث للفنانين الشباب؟ أتصور أن هذا أمر منهجي للغاية".
واختتمت المخرجة الفلسطينية حديثها بالتأكيد أن تلك الممارسات تتصل بما يحدث في فلسطين، وأن التدمير الذي طاول قطاع الثقافة هناك، من خلال استهداف المراكز الفنية، هو جزء من حرب الإبادة الجماعية؛ إذ تتمثل إحدى وسائلها بإسكات الفنانين والقضاء على الإنتاج الثقافي.
من دون إشعار مسبق
النموذج الثالث للفنانات الفلسطينيات اللاتي واجهن محاولات إسكات أصواتهن بشجاعة، هو للفنانة الفلسطينية ـ التشيكية، يارا أبو عطايا (مصممة زجاج)، مُنشئة محتوى مقيمة في براغ، حصّلت شهرة واسعة في مجالها، لكنها اليوم لا تحظى بالاحتفاء، بل تخضع لرقابة وسائل الإعلام التشيكية.
كان موقع Novinky.cz التشيكي قد أجرى مقابلة مع أبو عطايا في 10 ديسمبر/كانون الأول. لكن، بعد مرور ساعتين على نشر نص الحوار، فوجئت بحذفه، وذهبت الوكالة إلى أبعد من ذلك، إذ طردت المحررة ماجدالينا ماتوسكوفا، التي أجرت المقابلة.
وفي تصريحات صحافية، كشفت أبو العطايا أن الأمر تكرر معها، إذ حذفت قناة CT24 لقاءً أجري معها بعد انقطاع البث من دون إشعار مسبق عندما اتصلت بأمها في غزة، حتى تعطي للمشاهد التشيكي فكرة حية عما يحدث هناك.
بهذا الخصوص، قالت أبو العطايا في تصريح صحافي: "أصبحت أشعر اليوم أن هويتي الفلسطينية تجعلني مجرمة في نظر كثيرين في التشيك".
وأعربت أبو عطايا عن دهشتها البالغة لما حدث مع الصحافية التي أجرت معها المقابلة: "لم أكن أعتقد قط أن شخصاً ما سيُفصل من وظيفته لمجرد إجراء مقابلة. هناك أجندة معادية للفلسطينيين في الصحافة التشيكية، وهي ليست حتى خفية".
هذه المعاني، أوجزها الفنان التشكيلي الفلسطيني الأبرز سليمان منصور في مقابلة أخيرة معه، مؤكداً أن الغرب يتسم بالعنصرية، وأن حقوق الإنسان لديه لا تعني نفس الشيء حين يتعلق الأمر بالفلسطينيين: "بالنسبة لهم نحن أناس مختلفون".
واستطرد التشكيلي الفلسطيني متحدثاً عن بلده، وعن كيف ينظر إليه الغرب الاستعماري: "نحن نحمل الكثير من التاريخ. ولأن بلدنا الذي يربط بين القارات الثلاث هو بلد له وضع خاص، فهو مشبع بالدم والدموع والإبداع والحب. ومع كل هذا التاريخ، ينفي أعداؤنا ومؤيدوهم حتى وجودنا الجسدي كبشر عاديين، ما يسهل عليهم قتلنا وسرقة أرضنا ومواردنا وحرماننا من الحرية".
أما عن دور الفن وسبب استهداف أهله، فيوجزه سليمان في أن "الفن يمكن أن يساعد في تغيير وعي الناس؛ لأنه يتواصل بدرجة أكبر مما عداه مع الإنسان، على المستوى الشخصي بالخيال والإبداع والسحر".