في إحدى الصور الملتقطة لأحد أحياء حلب الشرقية المحاصرة - قبل استيلاء النظام السوري عليها بساعات (أوخر العام 2016)- تربعت شواهد القبور في واجهة الصورة، مختلطة بالعمائر السكنية، شاخصة رؤوسها الرخامية البيضاء، متقدّمة على العمائر التي تقمصت هياكل أصحاب القبور. آلاف الحكايات المزروعة في جنبات حديقة الموتى هذه، انتشلتها عدسة الكاميرا، مخرجة حقيقة الحدث إلى الضوء. للصورة أثر كبير في تشكيل وعينا الإنساني عبر التاريخ، خاصة أنّ البعض منها امتاز بخاصية البقاء، يقبع هامداً في زوايا الذاكرة، إلى أن يأتي الحدث المناسب ليدفع به من جديد إلى الواجهة المضيئة.
في الذكرى الحادية عشرة للثورة السورية، كيف استطاعت الصورة كسر قدسية الرموز المعظّمة؟ وكيف استطاعت دراسة تحولات المدن والأوضاع الاجتماعية والأشخاص على مدار 11 عاماً؟
الإجابة حاضرة ولكن فيها من القسوة ما يجعل من العودة إلى البدايات الأولى، وسرد المراحل التي عشناها خلال الثورة السورية رحلة عبور بين عالمين، أُريدَ من خلالهما وأد كل محاولة بشرية للنجاة.
بعد مرور كلّ هذا الوقت، ما زلنا نطرح على أنفسنا السؤال الأهم: ما الذي جعل أولى خطواتنا تتسابق لإتلاف ذاك الأرشيف الصوري الفيروسي الانتشار، الجاثم على صدورنا لوجه أوحد بارد المعالم، قبيح الحرفة والتشكيل؟ عند تلك اللحظة التي انتزعت فيها الصور المتكاثرة - من جدران المدارس ومؤسسات الدولة العامة، منصفات الأتوتسترادات، الحدائق العامة وجذوع الأشجار، أعمدة الإنارة، بوسترات عملاقة تتصدر واجهة الأبنية والمراكز التجارية، صوره في هيئة: المزارع، القاضي، اللواء الركن، الطبيب، مهندس الحروب، الآثاري... إلخ - تفتتت جذور الخوف التي شلّت حواسنا منذ زمن، والتي وضعتنا أمام أنفسنا في مواجهة حقيقة أنّنا أبناء هذه المدن، وعلينا استعادتها بعمائرها التي كانت تستنسخ صورة مخلوق واحد، اختُزِلت الجغرافية السورية كاملةً في شخصه.
بدأت تتصدر المشهد صور حملت معها بوادر مرحلة جديدة، من خلالها سمعنا أصوات الهتافات والأهازيج والأغاني الثورية التي دبت الحماس في أرواح الشعب. كانت الصرخة هي من وحّدت الجغرافية السّورية، ليس فقط السّورية، بل انتقلت لتنسج من ساحات الثورة في بلداننا العربية، مكاناً واحداً ذا دلالات رمزية لن تمحى، نتناقل صيحاتنا في ما بيننا، وكأننا أصبحنا جغرافية واحدة ترفع نفس الشعارات.
بثت فينا الصور القادمة من ثورات البلدان العربية القوة لمواجهة نظام بترسانته العسكرية، فالصورة التي طافت بجسد البوعزيزي، لم تحرق جسده وحده، وإنما كانت الشرارة التي أشعلت النار في الهشيم. فيما جاب جسد شيماء الصباغ (شهيدة الورد) أصقاع العالم، ليمسك زوجها بها ويبقي جسدها واقفاً مانعاً إياه من السقوط أرضاً، بعدما رفض العسكر إسعافها إلى المشفى. انتشرت عقب هذه الحادثة صور لأشخاص من كافة أنحاء العالم، تقمصوا جسد شيماء وزوجها.
لن تمحى أصوات الهتافات الثورية المنطلقة من صورة أول مظاهرة احتجاجية في الجامع الأموي، لتتبعها مناطق الجغرافية السورية الواحدة تلو الاخرى. صور قادمة من مهد الثورة في درعا، صور ساحة العاصي، حمص وأريافها، بانياس، دير الزور، دمشق وأريافها، يبرود، الزبداني، عامودا... لقد استطاعت هذه الصور أن تنفث ريح الثورة بينا كشعوب عربية، نتلقفها بكل حواسنا قبل وصول الثورة إلى عتبة كل بلد يعيش على أمل الثورة. واستطاعت أن تفرغ جعبتنا من كل أدوات الخوف والرعب المعشش بين ضلوعنا، الخوف الذي أتقن أجدادنا توريث نسخه البغيضة جيلاً بعد جيل.
يمثّل الأرشيف الصوري ملفات إدانة، توثق لنا حالة المدن وتحولاتها القاتمة؛ فبالعودة إلى الألبومات الصورية في العقود الأخيرة، سنرى معاناة المدن العربية واضطراباتها الواضحة المعالم. منذ عقد السبعينيات، ولأسباب اقتصادية متنوعة، ارتفعت معدلات النمو الحضري في العالم العربي بشكل ملحوظ. عجزت خلالها المدينة العربية عن الاستجابة للتحديات التي تفرضها معدلات التحضر المتسارعة، بدءًا من الصراع اليومي لتوفير الاحتياجات الأساسية، مروراً بترهل البنية التحتية، وزيادة فئة الشباب الفاقدة لأبسط الحقوق. رافق ذلك تحويل الأرياف العربية إلى حواضن للمباني السّكنية الحديثة والشوارع المكتظة، بخططٍ أفقدت الريف هويته، وجعلت منه مدناً مشوهة.
منحتنا الصورة إحداثيات وحكاية كل مدينة أو قرية أو حي، وأدخلتنا في الحدث المظاهراتي في كل نقطة من الجغرافيا السورية، الذي بدأ إشعاعه ينضب مع تزايد أعمال العنف والقتل ضد المتظاهرين السلميين؛ فباتت الدماء تتصدر المشهد في نهاية كل جمعة تظاهر، وبدأت أعداد الضحايا ترتفع، وهذا ما جعل صوت السلاح يطغى على كلّ الأصوات.
تغيرت إحداثيات الصورة من الأرض نحو السماء، فبتنا نعاين مشاهد الطيران الحربي وهو يدكّ المدن بالصواريخ والأسلحة الثقيلة، غُطيت الشاشات بأخبار المدن والقرى التي باتت تطغى عليها الأعلام السوداء التي اتسعت رقعتها في كلّ من سورية والعراق، فأصبحت المشاهد هوليوودية بامتياز، ابتكرت أشكالاً جديدة للقتل والإعدام تصدرت شاشات العالم.
اختفت اليوم تلك الصور الملونة بالوجوه المنتعشة أو الغاضبة أو المتلهفة للحياة الجديدة، باتوا يلصقون بالشعب السوري صوراً ستكون في ما بعد علامات مميزة على الهويات أو جوازات السفر. لم نعد في أنظار هذا العالم إلّا صوراً للاجئين نطرق أبواب العالم لاستقبالنا، أو إرهابيين ملأت صورهم الشاشات، تنشر صورنا ونحن نتقاتل في "طوابير الذل" كما يطلق عليها السوريون... أرتال طويلة تقف تنتظر دورها لاستلام الاحتياجات الأساسيّة، بينما يغمض العالم أعينه عن صور استنزفت حياة من أرادوا أن يوثّقوا لحظة الحقيقة، وهبوا أنفسهم كي يوصلوا للعالم طرق الموت المتعددة التي تلذذ الطغاة في تجريبها على أجسادنا. لم يُعر أحد في هذا العالم باله لصور تلك الخيام المعلقة بين حبلين، يُفكّ وثاقهما عند أول هطول للثلج والمطر، فيقتل من يقتل ويموت من البرد من يموت.
لم يلتفت العالم للأرشيف الصوري (قيصر) الذي سُرِّب من مسالخ المعتقلات المخابراتية، فلن يستوعب العالم أن تلك الصور المُسرّبة شوهتنا جميعاً، حتى بتنا نضيق ذرعاً بأجسادنا العارية لحظة الاستحمام. لم يتوقف دوران هذا العالم أو يهتز لصور آلاف الأجساد المقتولة بالسلاح الكيماوي...
نهاية، لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة جرى استخدامها بكثرة خلال الثورة السورية؛ فنظراً إلى تشابه جغرافيا الحروب ومشاهد القتل، استغلت الأطراف المتناحرة الصورة كي تشكك بأحقية قضية الطرف الآخر، وهذا الأمر سيشكك بعدالة القضية، بمعنى أنّ ظهور صورة مغلوطة واحدة إلى العلن، سيحوّل كل الصور إلى أدلة قابلة للتشكيك بها، وسيخسر أصحابها المناصرة والتأييد.
لقد خالف النظام السوري سياسة الصورة الصحافية، حيث أسهب إعلامه في إظهار صور الضحايا بأقسى ما يمكن لعقل بشري أنْ يتحمّله، لقد أراد من الصورة الوحشيّة لتلك الأجساد أن تنال من عقول مؤيديه وتحوّلهم إلى آلاتٍ مفروزة للقتل من دون وعي مسبق. يكفي استحضار جسد أحدهم وهو مفتت، ليكون المتفرج صاحب قضية عادلة في نظره ونظر من يعيش حوله. ليس هذا فحسب، لقد أدى تواتر هذه الصور والمشاهد القبيحة دوره وتأثيره الكبيرين في مسح كلّ إحساس أو شعور، وتحويل الإنسان إلى وحش عملاق اعتاد لعق الدماء.