استمع إلى الملخص
- يهدف الفيلم، الذي ينتجه مؤسسة "قامات"، إلى توثيق النضال الفلسطيني والضغط من أجل حق العائلات في دفن أبنائها، معكساً الواقع المرير تحت الاحتلال والعقاب الذي يمتد حتى الموتى.
- يختتم الفيلم بمشهد تهريب جثمان محمد أبو غنّام، مؤكداً على الإجراءات القاسية للاحتلال والجهود الوطنية والدولية لاسترداد جثامين الشهداء، داعياً لتضافر الجهود لإنهاء المعاناة وضمان حقوق العائلات.
اكتظت القاعة الكبرى في مبنى عزيز شاهين (كلية الآداب) في جامعة بيرزيت بالطلاب، ما اضطر كثيراً منهم إلى الجلوس على الأرض، أو متابعة الفيلم الوثائقي الدرامي القصير "استرداد مؤجّل" للمخرج عبد الله معطان.
ويتناول الوثائقي قضية جثامين الشهداء الفلسطينيين المُحتجزة لدى الاحتلال. ينقلنا الفيلم ما بين بيت لحم ورام الله، إلى اثنتين من أمهات هؤلاء الشهداء، واللتين عبّرتا بما يفطر القلب عمّا يعتصر قلبيهما، يوميّاً، ومنذ سنوات، إثر احتجاز جثماني ابنيهما، إما في ثلاجات، أو في "مقابر الأرقام"، إذ يبدو قاسياً لهما ذلك الفعل اليومي بفتح الثلاجة المنزلية المتكرر يوميّاً، والذي يذكرهما بحالة ابنيهما، اللذين يعيشان في قوالب من الثلج.
وبينما تحتفظ أم الشهيد أمجد أبو سلطان من بيت لحم، بملابسه منذ يوم استشهاده قبل سنوات، وبصور جثمانه، حين نجحت عائلته بانتزاع قرار قضائي لتشريحه، ما اضطر سلطات الاحتلال إلى إخراج جثمانه لساعات عدّة من داخل القالب الثلجي حيث يحتجز كغيره في درجة حرارة تتراوح ما بين 40 و50 درجة مئوية دون الصفر، تسرد أم الشهيد صالح البرغوثي، مشاعرها في كل شتاء، مع كل "فتحة" لثلاجة منزلها.
اختتم الفيلم بمشهد تهريب شبّان فلسطينيين لجثمان الشهيد محمد أبو غنّام، الذي استشهد في صيف عام 2017 برصاص الاحتلال على مدخل بلدته الطور، شرق القدس، وبعد أقل من ساعة على استشهاده، شُيّع جثمانه سريعاً، وواراه المشيّعون الثرى، من دون أن تستطيع أمه وداعه، وكل ذلك كي لا تحتجز قوات الاحتلال جثته.
يشير رئيس مجلس إدارة مؤسسة "قامات" لتوثيق النضال الفلسطيني، الجهة المُنتجة للفيلم، أنس الأسطة، في حديث إلى "العربي الجديد"، إلى أن فيلم "استرداد مؤجّل" يأتي ضمن سلسلة أفلام المؤسسة التي انطلقت قبل سبعة أعوام، وهو تدشين لإنتاجات المؤسسة لعام 2024، ويأتي لتسليط الضوء على قضية محورية، ألا وهي "جثامين الشهداء المحتجزة"، سواء في ما يصطلح عليه بـ"مقابر الأرقام"، أو في "الثلاجات"، و"هو ما ركّز عليه الفيلم، بهدف نقل معاناة عائلات الشهداء إلى العالم، عبر تعميمه مع شركائنا في فلسطين، ومن خلال القنوات الفلسطينية الرسمية والأصدقاء في القارات كافة، ليدرك العالم أحقيّة الشعب الفلسطيني في دفن شهدائه؛ إذ إن الاحتلال الإسرائيلي هو الكيان الوحيد الذي يعاقب الفلسطينيين حتى بعد استشهادهم".
يلفت الأسطة إلى أن "قامات"، ومنذ تأسيسها، أنتجت 13 فيلماً وثائقيّاً وروائيّاً، منها أفلام حققت جوائز في مهرجانات عربية وعالمية، موضحاً أن مخرج الفيلم عبد الله معطان كان صاحب الفيلم الأول لإنتاجات المؤسسة الفلسطينية غير الربحية، مشيراً إلى خصوصية خروج الفيلم في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وقد دخلت شهرها الثامن، وما يرافقها من مقابر جديدة للأرقام داخل غزة وخارجها.
وفي تعقيبه على الفيلم، يلفت أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، عبد الرحيم الشيخ، إلى أن الشهداء المُحتجزة جثامينهم لدى الاحتلال، يختصرون القضية الفلسطينية؛ فهم شهداء وأسرى، وبينهم كثير من اللاجئين، قاتلوا من أجل تحرير شعبهم، واستشهدوا لأجل ذلك، مؤكداً أن "المكوّنات الثلاثة لاستمرار نضالنا الوطني، ومأساتنا في ظل الاحتلال، تتمحور حول المخيم، والسجن، والمقبرة"، مضيفاً إليها ما أسماه بـ"المقبرة المُتحركة" أو "الثلاجة"، متأسفاً على كون الفلسطيني لا يسيطر على شؤون موته باعتباره لا يسيطر على شؤون حياته.
يقول الشيخ إنّنا نتحدث عن الجثامين المتحجزة لدى الاحتلال الإسرائيلي، بينما تجاوز عدد الشهداء في قطاع غزة، منذ حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة عليه، الـ35 ألفاً، علاوة على عشرات آلاف الشهداء تحت الركام الذين لم نعرف عنهم شيئاً بعد، وهي "في ثلاجات من نوع مختلف". ولدينا شهداء "في مقابر جماعية غير معلن عنها داخل غزة، قتلهم الاحتلال بعد أن اقترف جرائمه بحق من فيها"، كما لدينا "عشرات آلاف الشهداء مع وقف التنفيذ في السجون الصهيونية". ومن بين آخر شهدائهم المحتجزة جثامينهم داخل الزنازين، الأسير الشهيد وليد دقّة.
بدوره، يشير ممثل الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، حسين شجاعية، إلى أن دفن شهداء ثورة البراق الثلاثة: محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، من قبل الاحتلال البريطاني لفلسطين، بعد إعدامهم في العام 1930، بعيداً عن أهاليهم وتحديداً داخل سجن عكا، دشّن ظاهرة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، واصفاً إيّاه بفعل استعماري، ورافق الكثير من الأنظمة الاستعمارية على مدار الداخل.
يلفت شجاعية إلى أن أهمية فيلم "استرداد مؤجّل" تكمن في تناولها الجانب الشعوري لدى العائلات المحتجزة جثامين أبنائها من الشهداء الفلسطينيين، وخاصة في الثلاجات، وهو أمر واقعي، إذ تُحتجز في ثلاجات معهد طبّي يتبع لجامعة تل أبيب، مشيراً إلى أن جثمان الشهيد أمجد أبو سلطان احتاج إلى أسبوع خارج الثلاجة، قبل تشريحه، لعودة الجلد إلى طبيعته، وإلى أن شهيداً آخر وضعوه في الثلاجة ورجله مرفوعة، وحين تحرّر منها كان في الوضعية نفسها، ودفن ورجله مرفوعة أيضاً، فالشهداء في الثلاجات عبارة عن قوالب من الثلج فعلياً، وهو ما عبّرت عنه الحاجة البرغوثي بالفيلم، قائلة إن الاحتلال يتعامل مع الشهداء بطريقة أسوأ من الدجاج داخل الثلّاجات.
ووثّقت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، حسب شجاعية، قرابة 400 جثمان شهيد في "مقابر الأرقام"، تم تحرير 120 منها، وإن قرابة 256 جثمان شهيد بقيت محتجزة لدى الاحتلال، لافتاً إلى أن العدد أكبر من ذلك بكثير، غير قرابة 250 جثمان شهيد في الثلاجات بمجموعة 506 شهداء تمّ توثيقها، من بينهم 51 طفلاً تقل أعمارهم عن 18 عاماً، و27 أسيراً آخرهم وليد دقة وأقدمهم وليد دولة في العام 1980، ولا يزال جثمانه محتجزاً إلى يومنا هذا، وثماني شهيدات، محتجزة جثامينهن مناصفة بين "مقابر الأرقام" و"الثلاجات"، علاوة على قرابة 1200 شهيد مجهولي مكان الدفن في حرب الإبادة المتواصلة في قطاع غزة.