قد لا تتطلّب بعض القضايا الإنسانية والاجتماعية عمقًا أو سحرًا إخراجيًا لتفكيكها ومعالجتها ضمن صيغ بصرية عالية الجودة. ربما كل ما يتطلبه الأمر كاميرا أو اثنتين، وكادرًا صغيرًا وممثلين اثنين أو ثلاثة، يحسن جميعهم مرافقة الكاميرا وتعبئتها حسًا وعاطفةً ومغامرةً. المخرج السويدي – اللبناني، فارس فارس، خلال فيلمه الأخير A Day and a Half الذي صدر قبل أيام على شبكة نتفليكس الأميركية، التقط هذه المفردات بكل بساطة، وطرح رؤيته، من دون تضخيم أو مناورة سردية عميقة في الخط العام للفيلم.
ينتظم سيناريو العمل من دون الخضوع لأحداث متسارعة. وإن كان عنوان العمل "يوم ونصف" يشي بأحداث مكثفة، إلا أن بساطته تفرز بعدًا أخلاقيًا سيتوسع تحليلًا وموقفًا لمساءلة رأي عام في النسيج المجتمعي السويدي، حيث تجري احداث الحكاية.
سندرك أننا أمام رحلة متوترة، تسعى إلى إقلاق المشاهد بتروٍّ، وبالقدر المناسب منذ المشهد الأول، لحظة دخول بطل العمل آرتان كيلميندي (أليكسي مانفيلوف) إلى مركز الرعاية الصحية حيث تعمل زوجته السابقة لويز بريمر (ألما بويستي) هناك.
تلتقط الكاميرا قلقها من خطوات البطل وملامحه، والأخير يمنحها هذا الشعور، القلق والتوتر الباديان بقوة على ملامحه العربية. سيتخذ آرتان من زوجته السابقة، السويدية، رهينةً. وسيتعامل مع ضابط المفاوضات لوكاس مالكي (فارس فارس) طوال مشاهد الفيلم اللاحقة. لينحصر العمل بين هؤلاء الثلاثة خلال يوم ونصف.
نختبر في علاقة الثلاثي مع بعضهم بعضاً مفاهيم إنسانية وأخلاقية متعددة. اختبار حتّم عليهم خوض رحلة طويلة داخل سيارة الشرطة التي تقلهم جميعًا منذ لحظة خروجهم من المركز الصحي، حتى اللحظة الأخيرة من الشريط. مكونات القصة مرتبطة ارتباطاً كلياً بسلوك الشخصيات وخلفياتها. شخصية عربية، وزوجة سابقة سويدية مصابة باضطرابات نفسية (ذهان)، وضابط شرطة يبدو من ملامحه وكنيته أنه عربي هو الآخر، ولكن لا نجد تصريحًا واضحًا بذلك خلال مشاهد العمل (نتعرف إليه كمخرج يشارك في أحداث العمل).
من خلال هذه المكونات، نلتفت إلى انطباعات نفسية خاصة تحرضها عملية الاختطاف، لتنبش لنا صراعات اجتماعية وفكرية تسببت بها العنصرية المتفشية في المجتمع السويدي تجاه المهاجرين واللاجئين. الحوار الأول الذي يدور بين آرتان والضابط في أول لقاء لهما، يضيء لنا مبكرًا شكل هذه الصراعات التي تختلج في صدر البطل. فهو يدافع عن نفسه وينفي أنه إرهابي، إنما للظلم الذي تعرض له من قبل عائلة زوجته، التي حرمته من ابنته الصغيرة، وطردته خارج منزله، وحبسته لمدة ثلاثة أشهر.
لكن آرتان يمتلك قدرة على تحليل الأشياء وله خبرة داخل تلك المجتمعات، والرؤية العامة لحياة المهاجرين داخل المجتمعات الأوروبية، تبيح له القول إن "كل المهاجرين إرهابيون". وبذلك، تنتفي لديه المسؤولية الأخلاقية بالقدر الذي تسمح به. أي أن رهن الواقع والظرف تجاه سلوك الإنسان لا يحدده المفهوم العام للأخلاق، وإنما تحيده، ليكوّن مفاهيمه الخاصة الشخصية. وهو ما نلتفت إليه حين نرى البطل مترددًا قلقًا، تائهًا بين الصواب الأخلاقي العام والشخصي.
ولعل الألم والقلق اللذين يملآن عيني آرتان، ما يدفعه في لحظات عديدة للبكاء ضمن مواقف متعددة، دفعا المشاهد للغوص في ملامح هذا الإنسان المهاجر... ملامح تتسم بالضعف والشك والخوف بشكل لافت وفاضح. واختيار المخرج لهذه الشخصية كان موفقًا بشكل كبير ليترجم لنا جميع تلك المشاعر في وجه آرتان، وينقل لنا شعورًا عارمًا بالاحتقان تجاه حياة المهاجر وعلاقته مع المجتمع السويدي. فكيف سيقتنع مهاجر بأن له حقوقًا متساوية إن كان مقتنعًا أن سبب زجه بالسجن هو لونه وعرقه "لست أشقر بعينين زرقاوين". وما الذي سيدركه بعد أن تحطمت حياته الأسرية وورط نفسه في مسار شائك لحظة خطفه لزوجته السابقة وابنته من منزل جدها، كما سنرى لاحقًا، لتكتمل لديه رؤية شاملة حول تخاذل الجميع تجاهه، ومن بينهم أفراد الشرطة الذين يلاحقونه خطوة بخطوة.
لا تولد المفاهيم التي يتبناها البطل من عدم. يكفي أن نشاهد علاقته مع والدي لويز، لنفهم سلوكه واضطرابه وازدراءه. الأب يراه طفيليًا فقيرًا يسعى إلى لمال والثروة، والأم تراه غبيًا جاهلًا "ويفتقر للفطرة بسبب أصله"، وأن سبب المشكلة هو ابنتها التي تزوجت من آرتان في سن متأخرة بعد ان أمضت حياتها في السفر والحفلات، ليكون العربي هو كبش الفداء والوسيلة الوحيدة لتكوين أسرة.
في المقابل، تغدو مهمة الضابط لوكاس أقرب إلى المرشد النفسي والتوجيهي، وانعكاسًا لطريقة عمل الشرطة السويدية أمام مثل هذه القضايا. كما لو أننا نشاهد حلقة تعليمية يشوبها الحذر والتروي والدبلوماسية طوال الرحلة. سمات هذه الشخصية من هدوء واتزان وسعة صدر، تدفعنا للتغلغل أكثر حول وجودها كشخصية رئيسية في إطار المعالجة المقررة لهذه الحادثة. وتحيلنا إلى مسارات أكثر توسعًا حين نتعرف إلى حياته الشخصية كرجل شرطة منفصل عن زوجته ويعاني من مشكلات خاصة مع ابنه البكر. وكأنما هناك توجيه لافتراض أن مصير العلاقات الزوجية بين العرب والسويديين مصيرها الفشل وعواقبها على الأبناء ستكون وخيمة وقاسية.
غير أن الإيقاع الدرامي الذي نشأ بينه وبين آرتان ولويز خلال هذه الرحلة، وإن يؤجج حالة عاطفية مدروسة، ومؤثرة على سير الأحداث، يمنحنا نوعًا من التوازن، ويدفعنا للتماهي مع عملية ترويض الحالة العنصرية المتفشية في المجتمع السويدي وتبديدها داخل سيارة متحركة، فيها نموذج صغير يعكس حياة الكثيرين من العرب في أوروبا عامة، والسويد خاصة.